تقع منطقة "مسابك النحاس" في حي اللبان غربي مدينة الإسكندرية المصرية، ويتمسّك أصحاب الورش الصغيرة المتناثرة في المنطقة بالأفران البدائية، وكأنهم يرفضون التطوّر القائم، وتعدّد التقنيات الجديدة، في تجسيد حقيقي للإرث الإنساني، والقدرة الإبداعية للحرفي المصري عبر الزمن.
تعدّ صناعة صهر المعادن إحدى الحرف العريقة التي توارثتها الأجيال في تلك المنطقة، وهي تتميّز بروح الإبداع، وضرورة إتقان العمل اليدوي، وتحتاج إلى صبر ودقة وتركيز، وقدرة على التحمل، فرغم دخول التقنيات الحديثة في بعض الورش، ما زال العاملون فيها يستخدمون عدداً من الأدوات التقليدية البسيطة لصهر النحاس، وصبّه في قوالب متنوعة، قبل أن تعيد أنامل ماهرة مبدعة تشكيله لخلق تحف فنية فريدة.
رغم أن هذه الورش تعتبر من بين الأقدم في مصر، وجزءاً من تراث مدينة الإسكندرية وتاريخها، إلا أنها تواجه خلال الفترة الأخيرة صعوبات تجعلها تصارع لضمان البقاء، من بينها ارتفاع أسعار الخامات، وتحفّظ وزارة البيئة على استمرار وجودها داخل الكتلة السكنية، باعتبارها من أكثر الصناعات الملوثة للبيئة والمضرة لصحة الإنسان.
يقول المعلم فتحي عبد الجواد، صاحب أقدم مسبك نحاس في منطقة اللبان، لـ"العربي الجديد": "منذ قرون مضت، تشتهر الإسكندرية بتقنياتها المتقدمة في صناعة النحاس، وتعتبر المهنة من أعرق التقاليد الحرفية في مصر"، مؤكداً قدرة ومهارة وإبداع الحرفيين المتخصصين في تلك المهنة على تحويل المعادن إلى منتجات متعددة تستخدم في مختلف جوانب الحياة اليومية أو الصناعية.
يضيف عبد الجواد: "تتميّز المسابك النحاسية بتفاصيلها الدقيقة، والزخارف الفنية المعقدة التي تُبرز جماليات النحاس، وتُظهر مهارة الحرفيين في التعامل معه، لتتمتع القطع النحاسية التي تخرج من هذه المسابك بجودة عالمية، وتتنوع بين التماثيل الأنيقة، والأواني المزخرفة، والمصابيح وغيرها من المشغولات الفريدة. على الرغم من الظروف الصعبة التي يعمل فيها الحرفيون، إلا أنهم ينجحون في تحقيق مستويات عالية من التفوق الفني، ويعتمدون على خبراتهم ومهاراتهم اليدوية لتشكيل النحاس، وإضفاء أشكال وتفاصيل رائعة تميّز تحفهم الفنية، ولا شك في أن إصرار الحرفيين وعشقهم لهذا الفن يميّزانهم، ويُعززان الحرفة ويطورانها، كما يحافظان عليها كتراث ثقافي، ويدعمان الاقتصاد المحلي".
من بين طبقات متعددة من السواد الذي يكسو اليدين والملابس، يتحدث الأسطى مرسى محمود، وهو أحد أمهر صانعي النحاس في منطقة المسابك، لـ"العربي الجديد"، عن ظروف العمل. يقول: "نعمل بين ألسنة اللهب، وبجوار أفران درجة حرارتها تتخطى 420 درجة مئوية، وفي غرف شبه مظلمة شديدة الحرارة، ونعتمد على قوالب حديدية وخرسانية في مسابك صهر المعادن لإنتاج تحف متنوعة الأغراض".
يضيف محمود: "تبدأ دورة العمل من عملية القولبة، وهي صنع تجويف أو قالب من الرمال الخضراء المتماسكة والملتصقة المسام، عبر (اسطمبة) يتم سكب المعدن المنصهر فيها لإنتاج الكتلة المطلوبة، ثم تُضاف إليه كميات محددة من المياه لزيادة الصلابة. بعدها يتم تشحيم التجويف الداخلي للقالب، ثم يغلق لخفض درجة حرارته، وتكون (الفورمات) معدة مسبقاً للتصميم، ثم تأتي خطوة حقن المعدن المصهور تحت ضغط عالٍ، وتسييح النحاس في الفرن بعد تشكيله، ثم يفتح القالب، ويقذف المسبوك إلى الخارج، ومن ثم تأتي مرحلة تنظيفه من الزوائد والشوائب، والتأكد من مطابقته للمواصفات والمقاييس المطلوبة".
ويقول أحمد القاضي، العضو السابق بشعبة المسبوكات في اتحاد الصناعات المصري، إنه "على الرغم من استخدام أفران وأدوات بدائية، إلا أن الحرفيين ينجحون في إبهار العالم بتحفهم النحاسية ذات الجودة العالية. يجب أن ندعم هؤلاء الحرفيين، ونهتم بتطوير هذه الصناعة التقليدية، فهم يعكسون قوة الإرادة البشرية، والقدرة على الإبداع، ومن خلالهم نستطيع أن نرى جمال الفنّ ومهارة الحرفي. مسابك النحاس في الإسكندرية جوهرة تتألق في عالم الصناعة والتراث، وتجسد حالة فنية استثنائية، وتاريخاً غنياً، ما يجعلها تحظى بتقدير وإعجاب الأهالي والزوار على حد سواء، فتاريخ صناعة مسابك النحاس في الإسكندرية يعود إلى عدة قرون، إذ كانت المدينة مركزاً حضرياً وتجارياً مهماً".
ويوضح: "تعتبر مسابك النحاس أحد العناصر الثقافية المميزة في الإسكندرية، إذ تجذب الزوار من السكان والسائحين، فهي فضلاً عن جمالياتها، تحمل قصصاً تاريخية، وتعبيراً عن الهوية المصرية، كما تعكس الأشكال الهندسية والزخارف الفنية تراثاً غنياً، وتقاليد فنية أصلية. صناعة مسابك النحاس تؤدي أيضاً دوراً اقتصادياً مهماً، فهي توفر فرص عمل للعديد من الحرفيين، وتساهم في دعم الاقتصاد المحلي، والحفاظ على التراث الثقافي، كما تعزز السياحة الثقافية في المنطقة، إذ يقصدها عشرات الزوار للاستمتاع بالأعمال الفنية، وشراء القطع التذكارية".
ويشدد القاضي على ضرورة دعم صناعة مسابك النحاس في الإسكندرية حتى تستطيع الصمود في مواجهة التحديات، إذ تتطلب الصناعة الحفاظ على التقنيات التقليدية، ومواكبة التطور التكنولوجي في ذات الوقت، وينبغي تكاتف جهود المحافظة واتحاد الصناعات ورجال الأعمال والمستثمرين لتوفير الفرص لتمويل أنشطة تلك الورش، وفتح قنوات تواصل مع الخارج لتسهيل تصدير إنتاجها.
وتعطل مشروع نقل المسابك إلى خارج الكتلة السكنية بعد إنشاء ورش غير متوافقة مع متطلبات تلك الصناعة. يقول عضو مجلس النواب السابق، حسني حافظ، إن "الإسكندرية تضم أكثر من 250 مسبكاً وورشة لصهر المعادن، من بينها مسابك للنحاس والزهر والحديد، وبعضها يرجع تاريخ إنشائها إلى أكثر من 100 عام، وفي الفترة الأخيرة تصاعدت الدعوات لنقل المسابك إلى خارج الكتلة السكنية، بعد أن تسبب الدخان الناتج من عمليات صهر المعادن المختلفة في إصابة الأهالي بأمراض خطيرة".
ويوضح حافظ أن "هذه الورش تعد من بين الأقدم في مصر، وتعتمد على الطرق التقليدية في صهر المعادن، وجهاز شؤون البيئة لديه تحفظات على أنشطتها، ويعتبرها من أكثر الصناعات الملوثة للبيئة، وسبق العمل على نقلها من داخل المنطقة السكنية بالتعاون مع الصندوق الاجتماعي الذي وافق على منح أصحاب المسابك القديمة قروضاً للانتقال، لكن المشروع لم يكتمل".
ويؤكد عضو مجلس إدارة غرفة الصناعات الهندسية باتحاد الصناعات المصرية، محمد البودي، أن "مشروع نقل المسابك لم يطرح مجدداً رغم حصول مصر على منحة من الاتحاد الدولي لنقل الصناعات الخطرة إلى خارج المدن، ومن بينها صناعة المسابك، وتخصيص مساحة 28 فداناً في غرب المدينة لإنشاء مجمع المسابك الجديد. هذا المشروع كان ضرورياً، لكنه توقف بعد إنشاء ورش لا تتناسب مع طبيعة تلك الصناعة من حيث التهوية والإنارة والمداخن، وعدم مراعاته الارتفاعات المناسبة، لذلك تقرر تحويله إلى ورش صغيرة لصناعات البلاستيك، ومن المقرر توزيعها خلال الفترة المقبلة".
وتقدمت شعبة المسابك في اتحاد الصناعات المصري بشكوى ضد محافظة الإسكندرية، تتهمها بإنفاق نحو 46 مليون جنيه (1,5 مليون دولار) على المشروع، قبل أن يكتشف أصحاب المسابك الأخطاء الفادحة في تصميم المباني، وعدم مطابقتها المواصفات المتفق عليها.