مع تصاعد الصراع العسكري في سورية منذ عام 2012، عمد النظام إلى تعطيل كلّ المؤسسات الرسمية في المناطق التي خرجت عن سيطرته، ومنها مؤسسة القضاء. هذا الأمر أدى إلى فقدان إحدى أهم سلطات ضبط المجتمع، ما دفع إلى خلق العديد من المحاولات لملء هذا الفراغ. لكنّ تعدّد المرجعيات السياسية والعسكرية، أنتج جسماً قضائياً غير متجانس، من حيث المرجعية ونفاذ سلطته. وانعكس واقع القضاء على أهالي الشمال الغربي من سورية، الخاضع لسيطرة المعارضة، لا سيما حلب وإدلب، في ظلّ عدم تحقيقه طموحاتهم من إرساء العدل وحلّ النزاعات وترسيخ سيادة القانون فوق الجميع. كما وُجهت إليه اتهامات بانتشار المحسوبيات والفساد، وضعف تطبيق الأحكام، ما زاد من المطالبات بإصلاح القضاء وإحقاق الحقوق، آخرها إطلاق جهات وشخصيات مبادرة تهدف إلى تطوير القضاء وتنفيذ الأحكام.
تتعدد مشاكل القضاء، بحسب الناشط علي الحلبي، الذي يتحدث إلى "العربي الجديد" عن "تسييس للقضاء يجرى بحسب القوى الحاكمة على الأرض. وهناك أشخاص غير جديرين بأن يكونوا قضاة، لكن تمّ فرضهم من قبل بعض الفصائل، ومنهم من لا يحملون حتى شهادة جامعية. أما نقطة الضعف الأبرز، فهي تدخل الفصائل في عمل القضاة والضغط عليهم، ليصل الأمر إلى درجة القتل". يلفت إلى أنّ "الأهالي يصبرون من جراء غياب أيّ بدائل حالياً. فالحكم والقانون ينفذان بحق الضعيف الذي ليست لديه وساطة أو مال". ويعتقد بأنّ "إصلاح القضاء يكون بوجود قضاة ثوريين تؤَمَّن الحماية لهم".
وحول تطور واقع القضاء في الشمال الغربي من سورية، يقول وزير العدل في "الحكومة السورية المؤقتة" التابعة لـ"الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة" عبد الله عبد السلام، لـ"العربي الجديد": "بعد منتصف عام 2012، دخلت المناطق المحررة في فراغ للسلطة، ما تطلّب السعي لإيجاد البدائل. وجرى تشكيل المجالس المحلية لإدارة التجمعات السكانية، وتشكيل منظومة قضائية من محامين وقضاة منشقين وحملة شهادة الشريعة الإسلامية، تسعى لفرض الرقابة والمحاسبة والنظر بالخصومات بين أفراد المجتمع". يتابع: "في منتصف عام 2017، تم تشكيل المحاكم بمساعدة تركيا. اتفق العاملون في الحقل القضائي على تطبيق القوانين السورية بمرجعية دستور سورية لعام 1950. وتمّ تشكيل المحاكم وفق قانون السلطة القضائية السورية، الذي يتوافق مع المعايير الدولية. وتمّ التواصل في حينها مع المجلس الإسلامي السوري (الهيئة الدينية التابعة في مناطق المعارضة السورية) وقد لاقى ذلك قبولاً وارتياحاً في المجتمع". ويلفت عبد السلام إلى أنّ "الوضع الاجتماعي في الشمال، يسير نحو الاستقرار بشكلٍ ملحوظ. المؤسسة القضائية جزء من هذا المجتمع ولخدمته، فلا بدّ من مراعاة هذا التغيير والتطور". ويضيف أنّ "القانون السوري يعتبر من القوانين التي لا تخرج عن المعايير الدولية لجهة تشكيل المحاكم والإجراءات القضائية، كما تقوم إدارة التفتيش القضائي بدورها في تقييم عمل القضاة وفق اللوائح المعتمدة قانوناً وتلقي الشكاوى إن وجدت".
في المقابل، يقول إنّ هناك عقبة في سبيل فرض هيبة القانون، بالنسبة لتنفيذ عقوبة الإعدام. ويشرح: "السبب يعود لغياب هيئة سيادية، ونحن على تواصل مع الهيئة العامة للائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة، والمجلس الإسلامي السوري، للوصول إلى الصيغة السليمة في ما يتعلق بذلك، باعتبار هذه العقوبة منصوصاً عليها في القانون السوري". وحول احتياجات القضاء في الفترة الحالية، يقول عبد السلام إنّ "الاحتياجات كثيرة نظراً لضعف الإمكانات، فالمؤسسة القضائية تفتقر إلى معهد تأهيل القضاة ومختبرات للتحليل الجنائي والطب الشرعي وغير ذلك". وعن الأطراف المشاركة في مشروع تطوير القضاء وأدوارها، يوضح أنّ "المجلس الإسلامي السوري من أهم الشركاء لمشروع تطوير المؤسسة القضائية، خصوصاً في ما يتعلق بإعداد القضاة وتأهيلهم في الفترة الحالية. لكن لا يُخفى على أحد ضعف الإمكانات المادية لديه، كما هي حال الحكومة السورية المؤقتة والائتلاف الوطني". ويعتبر أنّه "ليس للفصائل العسكرية تدخل أو مشاركة في العملية القضائية، سوى المشاركة بترشيح من تراه مناسباً للعمل في القضاء العسكري، ولا ننكر دعمها تنفيذ الأحكام القضائية، إلى جانب إدارة الشرطة العسكرية، حين يكون أحد الأطراف المتخاصمين عسكرياً".
من جانبه، يقول الناشط أنس الخطيب، لـ"العربي الجديد": "في الحديث عن القضاء في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام لا سيما في مناطق عمليات درع الفرات، وغصن الزيتون بريف حلب، ونبع السلام بين ريفي الرقة والحسكة، لا بدّ من القول إنّها مناطق تعاني للأسف من فوضى، ما يجعل فرض الأمن ضرورة. لكنّ ذلك بحاجة لمظلة شرعية ومؤسسة قضائية وذراع تنفيذية قادرة على تلبية حاجة القاطنين إلى الأمن والفصل في النزاعات وتأدية الحقوق والواجبات". ويضيف: "هناك مشاكل عدة تحول دون تحقيق الأمن، كجدلية الدستور، بين مطالب باعتماد دستور عام 1950، وآخرين يرون اعتماد دستور 2012 معدلاً. لكنّ هذا الجدال لا يقف هنا، إذ يطالب كثير من القوى الثورية والشعبية باعتماد القانون الجزائي العربي الموحد (أعدّته جامعة الدول العربية) بعد تعديل بعض المواد المخالفة للشريعة الإسلامية، وإلغاء مواد مجحفة في القانون المعتمد حالياً، وسنّ قوانين جديدة تواكب طبيعة المرحلة من أهمها أحكام الإعدام".
ويضيف الخطيب: "المشكلة الثانية، تتمثل بالطبيعة البنيوية للجسم القضائي وضعف الخبرات المتوفرة في القضاء والعاملين في السلك القضائي. أما المشكلة الثالثة، فتتلخص في ضعف قدرة القضاء على فرض القانون. ولهذا الضعف عوامل متعددة، منها الفصائل العسكرية بشكلها الحالي، إذ ما زالت تبعيتها اسمية لوزارة الدفاع في الحكومة المؤقتة، وهي بالتالي غير منتظمة، بل أمامها خطوات كبيرة لتصبح منخرطة في المؤسسة العسكرية، عدا عن التداخل في نشاطها بين أعمال مدنية خدماتية اقتصادية".
من جهته، يتحدث الأستاذ الجامعي، محمد نور حمدان، عن واقع القضاء في المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة لـ"العربي الجديد"، قائلاً: "الأركان الرئيسية للقضاء حتى يكون فاعلاً هي، استقلالية القضاء، وتوفر قوة تنفيذية لتطبيق قرارات القضاء وأحكامه، وكفاءة القاضي ونزاهته وحمايته". يضيف: "من الصعوبات التي تواجه المؤسسة القضائية، التخبط في مرجعية القانون. فالمنطقة غير مستقرة والسلطة التنفيذية ضعيفة وعاجزة عن حماية القاضي. ووقعت عمليات اغتيال عدة طاولت عدداً من القضاة، ضمن تصفية الحسابات، ما ينعكس سلباً على قدرة القاضي على إصدار احكام صحيحة بحق أشخاص مرتبطين مع مجموعات خارجة عن القانون".
وعن عدم تنفيذ أحكام القضاة، لا سيما أحكام الإعدام، يقول حمدان: "صدرت عدة أحكام إعدام بحق مجرمين، بعد تورطهم في تنفيذ تفجيرات وقتل المئات من الأبرياء، لكنّها لم تنفذ بسبب غياب رئيس للسلطة التنفيذية، ما أضعف أحكام القضاء، وزادت عمليات التفجير والاغتيالات من دون وجود رادع". ويشير إلى أنّ "المبادرة التي صدرت منذ أيام من أجل إصلاح المؤسسة القضائية من جهات وشخصيات عدة، مهمة ويجب تفعيلها من قبل الجهات المعنية، وهي الائتلاف ووزارة العدل في الحكومة المؤقتة والجيش الوطني السوري. وتقوم المبادرة على المطالبة بتنفيذ عقوبة الإعدام، وتشكيل لجنة تشريعية من أجل القانون، وإصلاح المؤسسة القضائية، وإبعاد الفاسدين عنها".
وعن عدم تمتع القضاء في الشمال السوري بالاستقلالية، يؤكد القاضي السابق غزوان قرنفل لـ "العربي الجديد" أنّه "لا يمكن الزعم أنّ الشمال السوري يتمتع بوجود مؤسسات قضائية مستقلة وفاعلة وذات أثر". ويرى أنّ "هزالة المؤسسة القضائية وعدم قدرتها على تطبيق القانون على كلّ من يخرقه أو يمارس تجاوزاً عليه، يحوّلانها إلى سلطة تنظيمية لعلاقات الناس القانونية أكثر مما هي سلطة لتطبيق القانون".
ويلفت إلى أنّ "الناس لا يثقون بهذا القضاء الذي صدرت عنه العديد من الأحكام التي تظهر حجم التدخلات والضغوط، التي يرزح تحتها، كقضايا حَكم فيها على ناشطين إعلاميين عبّروا عن آرائهم على وسائل التواصل الاجتماعي بالسجن والغرامة، بينما هو عجز عن مساءلة ومحاكمة عناصر مسلحة، تنتمي لمليشيات تحكم المنطقة، ارتكبت تجاوزات وانتهاكات وجرائم خطف وقتل، وبالتالي من الطبيعي ألّا تكون هذه المحاكم محط احترام المجتمع". ويعتبر أنّ "أيّ جهد لتمكين القضاء، سيبقى بلا قيمة أو جدوى، ما لم يتمّ إخراج المسلحين من المدن، وكفّ يدهم عن التدخل بشؤون المجتمع". ويستدرك قائلاً: "الآن، الوضع بالتأكيد ليس مثالياً ليسمح بتشكيل سلطات وفصلها، لكن كان يمكن أن يكون هناك مجلس قضاء أعلى يتولى الشأن القضائي في التعيينات والمناقلات والترفيعات وغيرها. عدم وجود ذلك، دفع معظم القضاة المنشقين للاستنكاف عن الانخراط بالعمل في الشمال".
وكانت مجموعة من القوى السياسية والعسكرية والمدنية والناشطين قد أطلقت أواخر العام الماضي دعوة إلى إصلاح القضاء في المنطقة بإشراف الائتلاف الوطني السوري المعارض، والحكومة السورية المؤقتة التابعة للائتلاف، ونقابة المحامين الأحرار، والمجلس الإسلامي السوري، عبر تشكيل "لجنة تفتيش قضائية" و"إدارة للتشريع"، إضافة إلى ضرورة الإسراع بتطبيق الأحكام، خصوصاً الصادرة بحق منفذي عمليات تفجير".