مأساة ليبيا... كوارث اليوم التالي على الفيضان

16 سبتمبر 2023
تكثيف جهود الإنقاذ في درنة (حمزة الأحمر/الأناضول)
+ الخط -

لا تزال الأوضاع في مناطق شرقي ليبيا المنكوبة مأساوية بعد نحو أسبوع على وقوع الفيضانات والسيول، خصوصاً في مدينة درنة التي شهدت انهيار سد وادي درنة، حيث جرفت المياه مساحات واسعة من وسط المدينة، وخلفت آلاف القتلى والمفقودين. قتلى بلغ عددهم بحسب ما أعلن الهلال الأحمر الليبي يوم الخميس، 11300 شخص.

وبينما تعاني المنطقة من مشكلات متفاقمة منذ ما قبل العاصفة دانيال، متأثرة بسنوات الحرب والصراع الطويلة، والإهمال الحكومي الممتد إلى عقود، إلا أن العاصفة ونتائجها سلطت الضوء على المشكلات المتعددة في المنطقة، والتي من المتوقع أن تظهر تداعياتها الصحية والبيئية والاجتماعية والإنسانية في الأيام القادمة مع وضوح المشهد أكثر فأكثر.
وتمكنت فرق إنقاذ تركية ومصرية من الوصول إلى درنة صباح الأربعاء، لتلحق بها فرق تونسية وجزائرية، كما وصلت ليل الخميس فرقة إنقاذ إسبانية، وتوزعت الفرق على الأحياء المتضررة، وبدأ عناصرها مسح الأحياء الأكثر تضرراً، ورسم خرائط لها. وقال المسؤول عن عمليات مساعدة ليبيا في الصليب الأحمر الدولي، تامر رمضان، في مؤتمر صحافي، الجمعة، إنه "لا يزال هناك أمل بالعثور على أحياء" بعد الفيضانات الكارثية، لكنه رفض إعطاء حصيلة بعدد القتلى، مؤكداً أنها "لن تكون نهائية أو دقيقة".
وأكد عضو غرفة الطوارئ التابعة لبلدية مدينة درنة، عبد القادر أبو ملاسة، أن "أرقام الناجين من تحت الأنقاض تقديرية، كما هو حال أعداد الجثث المنتشلة، لكن يمكن القول إن الأعداد زادت بعد وصول فرق الإنقاذ الدولية".
وتناقلت مواقع التواصل الاجتماعي مقطع فيديو يظهر العثور على ثلاثة ناجين كانوا عالقين في كهف بأحد خلجان الشاطئ، ويظهر محادثة بين فريق تابع لحرس السواحل وفريق إنقاذ يخبرهم بالعثور على الناجين، وضرورة تقديم إسعافات أولية لهم. 
في المنافذ الجوية الثلاثة في طرابلس وبنغازي والأبرق التي تبعد نحو 100 كيلومتر غرب درنة، شارك متطوعون عمال المطارات في استقبال الدعم الدولي القادم من دول عدة، وسط وعود بتقديم مزيد من المساعدات الإنسانية، خصوصاً وسائل الايواء المؤقتة، والاحتياجات الخاصة بالأطفال، والإسعافات الأولية.

بدأت عدة فرق إنقاذ دولية العمل في درنة (حمزة الأحمر/الأناضول)

يقول طارق القرقني، المتطوع في فريق الهلال الأحمر، لـ"العربي الجديد": "فور وصولها، طالبت فرق الإنقاذ الدولية الأجهزة الأمنية بتوفير جرافات لفتح ممرات بديلة للطرق المدمرة في داخل الأحياء للوصول إلى البنايات المنهارة، وبدء البحث داخل ركامها بواسطة أجهزة كانوا يصطحبونها، كما أن الفريق الجزائري ضم عدداً من الغطاسين الذين بدأوا البحث عن جثث داخل المياه".
يضيف القرقني: "تمكنت فرق الإسعاف والهلال الأحمر الليبي من تقديم المساعدات لأهالي الضفة الغربية من المدينة، لكن ظل أهالي الضفة الشرقية معزولين يعانون العطش والجوع، وشارك فريق الإنقاذ التركي في بناء جسور معلقة مؤقتة داخل الوادي الذي شطر المدينة إلى نصفين بعد أن اقتلع الفيضان كل الجسور، وهذه الجسور أنهت معضلة التنقل بين شطري المدينة، وتمكن الفريق المصري من إعادة تأهيل طريق ترابي قديم مواز للمنفذ الشرقي للمدينة المدمر، ودخلت منه سيارات الإسعاف وسيارات تحمل المؤن والوقود إلى الضفة الشرقية".

أنشأ فريق الإنقاذ التركي جسوراً مؤقتة فوق الوادي الذي يقسم المدينة

وقبل وصول الدعم الدولي، وصلت آلاف السيارات الخاصة وسيارات النقل من كل مناطق ليبيا، ضمن حملة شعبية واسعة، ورغم وصول طلائعها إلى مدينة درنة مساء الاثنين الماضي، إلا أنها لم تستطع دخول المدينة التي جرفت السيول كل طرقها، قبل أن يجري تمهيد بعض الطرق.
وقال رئيس بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، عبد الله باتيلي، في بيان، إن البلاد لا يمكنها مواجهة التداعيات بمفردها، وإن "حجم الخسائر يفوق ما يمكننا تخيله. الشعب الليبي يضرب أعظم الأمثلة في الوحدة والتعاطف والصمود في مواجهة هذه المأساة المدمرة".
وكشفت فرق المركز الوطني لمكافحة الأمراض (حكومي)، عن التعامل مع 57 طفلاً يعانون أعراضاً مرضية تؤشر على شربهم مياها ملوثة، وقال رئيس المركز، حيدر السائح، لـ"العربي الجديد"، إن ذلك "مؤشر على تلوث مياه الشرب، وإن التعامل مع التداعيات الصحية للكارثة قد يحتاج إلى سنة كاملة".

التعرف إلى هوية الجثث مشكلة مستمرة (محمد شالش/Getty)

بدورها، قدرت منظمة الهجرة الدولية نزوح أكثر من 38 ألفاً و640 شخصاً بسبب فيضانات ليبيا، وقالت في بيان، إن "أكثر من 5000 شخص في عداد القتلى، وتم تسجيل 3922 وفاة في المستشفيات، وفقا لمصادر منظمة الصحة العالمية".
يقول الناشط السياسي عقيلة الأطرش: "كشفت نكبة العاصفة عن الوجه الحقيقي للحكومات، وأظهرت فشلها التام، فخلافاً لما أعلنته حكومة مجلس النواب من استعدادات، لم نشاهد سوى الفرق العسكرية التي جاءت للاستطلاع والتقييم، ولم تفعل هذه الفرق أي شيء، بل شاركت في تسريب المساعدات الأهلية، بينما انتشال الجثث كان يجري بجهود ذاتية من قبل الأهالي وبمساعدة فريق الهلال الأحمر بالمدينة، رغم أنه ليس من بين مهامه البحث بين الأنقاض أو انتشال الجثامين. دخول الفرق الدولية أحدث فارقاً كبيراً، فمنذ دخولها بدأ إعلان العثور على ناجين، وزاد انتشال الجثث، وفرق الإنقاذ الحكومية تنحصر مهامها في نقل الجثث، أو مرافقة الفرق الدولية خلال عملها".

استعاد فريق الإنقاذ المصري طريقاً ترابياً قديماً يصل إلى شرقي درنة

ويضيف الأطرش أن "فتح طرق ترابية للوصول إلى المدينة لم يكن صعبا على السلطات المحلية التي كانت قادرة على جلب عشرات الجرافات، وأعتقد أن التأخر كان لمعرفتها أنها لن تكون قادرة على فعل شيء إذا دخلت المدينة، وتصريحات المسؤولين والقادة العسكريين حول استعدادهم لمواجهة الإعصار تدينهم، وتجعلهم سبباً في زيادة آثار الكارثة". وبرزت محاولات التنصل من المسؤولية، وتبادل الاتهامات، فخلال تصريحات صحافية للمتحدث باسم قيادة حفتر، أحمد المسماري، اتهم حكومة طرابلس برفض تقديم المساعدة، ليرد المتحدث باسم حكومة الوحدة الوطنية، محمد حمودة، بتأكيد أن الحكومة تلقت مساعدات من 12 دولة، وأن رئيس الحكومة حث جميع الأجهزة على تحديد نوع الاحتياجات اللازمة للمساعدة.

تضررت غالبية الطرق في مدينة درنة (عبد الله دوما/فرانس برس)

ويلفت الأطرش إلى تأثير الانقسام السياسي على كل شيء، حتى على وصول فرق الإنقاذ الدولية، ويقول: "الفريق المصري وصل إلى شرق البلاد سريعاً، لكن مظاهر استقبال العسكريين المصريين من قبل خليفة حفتر كان مؤشراً واضحاً على الصراع السياسي، في المقابل كانت فرق الإنقاذ الجزائرية تحط في طرابلس، والإسبانية نقلت عبر طائرات حكومة طرابلس، وغيرها من المؤشرات على عمق الانقسام السياسي الذي عرقل تجاوز الأزمة سريعاً. سد العجز عبر الجهود الدولية ليس حلاً جذرياً، فتداعيات الكارثة ستستمر لفترة طويلة، فالمطلوب تأمين معيشة نحو ثلاثين ألف شخص، كما أن تداعيات الأزمة تحتاج تمويلاً كبيراً، وعملاً مكثفاً من قبل أجهزة دولة موحدة. حتى الآن، تتماهى الحكومتان مع اهتمام الإعلام الدولي بنكبة درنة، ولا تلتفت لبقية المناطق المنكوبة مثل البيضاء وسوسة وشحات، والمجتمع الدولي لن يستطيع تقديم أية مساعدة بعد عجزه عن إقناع المتصارعين على إنهاء خلافاتهم طيلة سنوات".
وتضمنت تصريحات مساعد الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية، مارتن غريفيث، الجمعة، مؤشرات على قلق الأمم المتحدة من تأثير الانقسام السياسي على جهود معالجة الأضرار، وقال غريفيث: "أعتقد أن المشكلة بالنسبة إلينا هي في تنسيق جهودنا مع الحكومة ومع السلطات الأخرى في شرق البلاد، ثم اكتشاف حجم الكارثة. لم نتوصل إلى ذلك بعد. مستوى الحاجات وعدد القتلى لا يزال مجهولاً".

ولم تملك السلطات المحلية من حل إزاء مئات الجثث المنتشلة خلال الأيام الأولى للكارثة سوى نقلها إلى مقابر المناطق المجاورة لدفنها في مقابر جماعية بسبب أعدادها الكبيرة، وسط مخاوف كبيرة من تفشي الأمراض والأوبئة بسبب تحلل الجثث المتبقية تحت الأنقاض.
ودعت منظمة الصحة العالمية ومنظمات إغاثة أخرى، الجمعة، السلطات في ليبيا إلى التوقف عن دفن الضحايا في مقابر جماعية.

من جهته، يؤكد الطبيب الشرعي، مختار سويسي، لـ"العربي الجديد"، أن "الدفن الجماعي له مخاطر بيئية كبيرة، فالجثث المتحللة في أوضاع كهذه ينبغي رشها بمواد خاصة قبل الدفن حتى توقف عملية التحلل التي لن يحجز التراب خروج آثارها إلى السطح، خصوصاً وأن الدفن في أكثر الأحيان يتم في حفر سطحية، كما أن عمليات الدفن الجماعية ستشكل آثاراً قانونية، على غرار القائمة في مقابر ترهونة وسرت الجماعية. رغم خبرتها المتراكمة، لم تكلف أي من الحكومتين الهيئة العامة للبحث عن المفقودين بالتعامل مع الجثث، وتوثيق هويات أصحابها".
وبعيداً عن درنة، لا يزال أهالي مناطق غرب وشرق بنغازي يعيشون فوضى تصريحات المسؤولين بشأن السدود، فسد وادي جازا شرقي المدينة، وسد وادي القطارة في غربها ممتلئان بالمياه، وحذر المتحدث باسم قوات حفتر، مساء الثلاثاء الماضي، الأهالي من مغبة انهيار السدين، وطالب من يسكن قريباً منهما بترك مسكنه، ثم عاد في ذات الليلة ليقدم اعتذاراً للمواطنين حيال تلك المعلومات المغلوطة التي قال إنه استقاها من فيديو لأحد النشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي، مشيراً إلى أنه تواصل مع متخصصين، وأنهم نفوا إمكانية انهيار سدود بنغازي. وصباح الأربعاء، أفادت بلدية بنغازي بأن منسوب المياه في السدين لا يشكل خطراً عليهما، وأنها بدأت في إجراءات تخفيف حمولة السدين، لكن ما يتداوله الأهالي عبر وسائل التواصل الاجتماعي يكشف عن مخاوفهم، ويعكس عدم ثقتهم في تصريحات المسؤولين.

المساهمون