مأساة الإسكندرية... الزحف الخرساني يدمر واجهة المدينة

06 سبتمبر 2022
المطاعم والمقاهي استولت على كورنيش الإسكندرية (فريدريك سلطان/Getty)
+ الخط -

ليست الإسكندرية المدينة المصرية الوحيدة التي تخضع لما يقال إنه "تحديث عمراني". في هذا التحقيق الذي ينشر بالتزامن مع "أوريان 21"، آراء لمن ولد وعاش في المدينة حول خطط التحديث، والتي تجعل العديدين يفكرون في الهجرة.

"عايزه أهرب، قبل اختفاء الأحياء الأساسية وكل ما أعرفه هنا، مثل محطة الرمل وسبورتنغ وشارع بورسعيد وأحياء شرق إسكندرية القديمة". بهذه الكلمات بدأت دينا (37 سنة) شرح دافعها لقرار الهجرة من مدينتها، ومن بلدها، بعد أن فقدت الإسكندرية عدداً من مكوناتها العمرانية، وعلى رأسها القدرة على رؤية البحر. بالتزامن مع ممارسات التطوير الجارية، أحسّت دينا بفقدان شعور الانتماء. 
في مارس/آذار 2022، اعتمدت الحكومة المصرية مخطط الإسكندرية الاستراتيجي 2032، وأعلنت تنفيذ مشاريع تطوير عمراني، من بينها إنشاء مدينة طبية، ومشروع منتزه "غرينز"، ومدينة سيدي كرير السياحية، ومنطقة "أليكس إكسبو" للمعارض والمؤتمرات. يولي المخطط اهتماماً بالاستثمار السياحي والصناعي، كما يفسح المجال للمستثمرين، لا سيما الأجانب، بصفتهم ممولاً أساسياً. 
يحمل هذا السيناريو الاستثماري اسم "التطوير"، وتتصاعد وتيرة سرعته، وعمق التغيرات المرتبطة به كلما اقترب من المدن المركزية ذات القيمة الاقتصادية، كما هو الحال في الإسكندرية، وكذا العاصمة القاهرة التي أعلنتها الحكومة عاصمة تراثية وتجارية، فيما تذهب كافة الموارد لتدشين عاصمة إدارية جديدة. 
في الأثناء، يُغيب كثيرون عن المشهد، ليس فقط بغياب تمثيل احتياجاتهم وقدراتهم ضمن المشاريع الحكومية وطموح المستثمرين، بل يُغيبون عن أي مشاركة عملية، فلا تأثير يُذكر لآرائهم في ما يحدث لمُدنهم، والذي ينعكس بالتبعية عليهم، في حين أن علم النفس البيئي يؤكد علاقة البيئة العمرانية بالسلوك الانتمائي للسكان، شريطة أن يكون لديهم القدرة على المشاركة والتفاعل.
وتفيد الدراسات بأن الإنسان يصير أكثر تقبلا للمحيط حين يكون صاحب قرار في عمليات البناء والتشييد، والترميم والتطوير اللاحق، ما يولد الشعور بالذات والفخر والانتماء للحيز الذي يعيش فيه. 
تعيش دينا حالة شعورية معاكسة، إذ تسيطر عليها أحاسيس القهر والحزن: "لا أحد يستطيع فعل شيء. عندي إحساس بالعجز والظلم لأن ما نملكه يُؤخذ منا من دون أن نُسأل عن رأينا أنا وغيري من المواطنين. فلا خيار لنا".
نتجول مع دينا في المدينة. نتطلع إلى بيت قديم تارة، ونتشارك توقع مستقبله: "سيُهدم أيضا، وتحلّ محلّه بناية شاهقة". تتعجب دينا من مجمع المطاعم والألعاب الموجود على الشاطئ قائلة: "بحر يقام عليه سيرك وخيمة. ما هذا الهراء. كل هذا يُفقدنا أي شعور بالانتماء إلى الإسكندرية. كيف ننتمي إلى مدينة تم تشويه كل ما تعرفه فيها، وأُزيلت ذكرياتنا مع معالمها المُهدمة؟". 
مازالت دينا ترى في مصر أشياء لطيفة، لكنها ترى أيضا أن رحيلها عن البلد هو خيار اضطراري: "لو هامشي وأسيب البلد هيكون على عيني (رغماً عني) لأني لم أعد قادرة على رؤية المشاهد القبيحة طوال الوقت في الإسكندرية وخارجها. مساحات عامة خضراء، أو قطع جديدة من شاطئ البحر يتم تحويلها إلى مبان قبيحة، أو مقاه ومطاعم". 

يتواصل استغلال شواطئ الإسكندرية استثمارياً رغماً عن الأهالي

يوثق بحث "كورنيش إسكندرية بين الخصخصة وحق الرؤية" البدء بردم الشواطئ منذ عام 1997، بزعم زيادة استيعاب الزحام، ولا سيما في فترة الاصطياف. بعد تولي اللواء عادل لبيب إدارة المحافظة في الفترة ما بين 2006 و2011، دخل التعدي على الشواطئ مرحلة جديدة، إذ تم حجب رؤية البحر، وسمح المحافظ بتقنين تلك الممارسات عبر الترخيص للمنشآت السياحية التجارية.
قُسمت الشواطئ إلى فئات مميزة، وسياحية، ومجانية، كما قُسّم الشاطئ الواحد إلى أكثر من شاطئ لاستغلالها ربحياً، وطرحت عدد من الشواطئ التي كانت مجانية في مزايدة تجارية علنية، ثم تصاعدت وتيرة التعديات في العقد الثاني من الألفية، واختتمت بإنشاء مشاريع استثمارية يملكها رجال أعمال، أو تتبع للجيش، منها مشروع كوبري (جسر) سيدي جابر، والذي لم يكن ضمن المخططات الحكومية، لكن ذلك لم يمنع تنفيذه مع جملة من المخالفات المصاحبة، منها رفع منسوب الكورنيش إلى ثلاثة طوابق. 

شواطئ الإسكندرية لم تعد متاحة للأهالي (فريدريك سلطان/Getty)
بعض شواطئ الإسكندرية لم تعد متاحة للأهالي (فريدريك سلطان/Getty)

في النهاية، استقر الجسر فوق شاطئ البحر، والذي اقتطعت منه مساحة إضافية لإقامة مجمع سياحي يضم متاجر ومطاعم، كما تم إنشاء فندقين جديدين، وهدم مسرح قديم، وصار على من يرغب في رؤية البحر الوقوف فوق الجسر. يُعرف هذا المشروع في المدينة بـ"مأساة تيفولي" نسبة لاسم المجمع السياحي، وتصفه دينا بأنه "ضربة قاضية" مع مجمع "ذا بريدج" في منطقة المحروسة. 
شكّلت إزالة الأماكن القائمة مسامير متعددة في نعش علاقة دينا بمدينة الإسكندرية، وهي التي اعتادت الجلوس في مقهى بمنطقة جليم يُدعى "النجمة"، حيث بإمكانها رؤية البحر، ومتابعة الناس يتمشون على "لسان جليم"، والذي تحوّل فجأة إلى مجمع "جليم باي.
تقول: "اللسان انتزع منا، وأغلق، قبل أن يعاد افتتاحه مشروعاً استثمارياً، ونفس الحال مع مجمع المحروسة. كنا نخرج من شارع الإقبال، فنجد أمامنا البحر، نتطلع إليه خلال الصعود من الشارع باتجاه الكورنيش، أما الآن فنجد (ذا بريدج)، وهو مبنى مصمت بلا معالم حل محل البحر".

تفقد دينا روابطها مع المدينة، الواحدة تلو الأخرى. تحاول إحصاء المزيد من الأماكن: "جنينة القائد إبراهيم أخذت أيضاً، وبني عليها مطاعم ومقاه قبيحة جداً. زمان، أيام (الرئيس حسني) مبارك، كان يوجد بناء مخالف، ومبان شاهقة الارتفاع تصل إلى 20 أو 30 طابقاً، وهدم مبان أثرية، كل هذا لا زال يؤثر في. في السنوات الأخيرة من حكم مبارك، عشت حياة منغلقة. لم أكن متعلقة بالمدينة، لأن طفولتي وحياتي قبل الثورة لم تسمح لي ببناء ذكريات كثيرة داخلها. حدث ذلك لاحقاً حين كبرت، وبالأخص بعد الثورة التي ارتبطت بتغيرات جذرية في حياتي". 
شكلت 2011 نقطة تحول على عدة أصعدة. أولها تدشين مبادرات وحملات لإنقاذ التراث، وهو جزء من النشاط العام الذي أنتجته الثورة، كما أفسحت مجالاً أوسع لاتخاذ إجراءات مختلفة، ومنها مقاضاة الدولة والمستثمرين لمنع هدم المباني التراثية، والدفاع عن حق المواطن في المساحات العامة بكل أنواعها داخل الإسكندرية. اجتماعيا، ساعدت الثورة والأحداث المصاحبة لها فئات أكثر على الخروج إلى المجال العام، والمشاركة في التعرف إلى المدينة وقضاياها، والتي لم تكن معروفة من قبل، أو لم يسبق الاهتمام بها. كانت دينا ضمن هذه الفئات. 
تقول: "صار وجودي في الإسكندرية، وفي مصر، مرتبطاً بأشياء محببة، وبمكتسبات جديدة، مثل الجلوس في المقاهي، والسهر، والسفر داخل مصر. بدأت أشعر أن بلدي فيها أشياء وأماكن كثيرة لن أجدها خارجها. المقاهي البلدي، والبساطة، والحياة غير المكلفة، والحياة الاجتماعية المختلفة، والسهر إلى ساعات متأخرة من دون خوف. كل هذا جعلني أتصالح مع المدينة، ومع فكرة البقاء في مصر، وأحب وجودي فيها، كانت تلك ثورتي الشخصية".
قضت دينا طفولتها في منطقة جليم، وفي عُمر الثانية عشرة انتقلت مع أسرتها للعيش في حي سموحة، الجديد آنذاك، والذي يُعتبر الامتداد العمراني حديث التأسيس للإسكندرية في فترة الثمانينيات والتسعينيات. تصف تغير السكن بأنه نقطة تحول في حياة الأسرة: "لم نكن نسكن في منطقة جميلة من حي جليم، وكنا نعيش في الطابق السابع لبناية لا يوجد بها مصعد، في حين كانت سموحة منطقة قيد التعمير وقتها". 

التحديث العمراني حجة متكررة لتبرير تشويه تراث الإسكندرية

حتى النصف الأول من القرن العشرين، كانت سموحة منطقة غير مُعمرة، وتنتشر بها المستنقعات المُحيطة بـ"بحيرة الحضرة"، وفي عشرينيات القرن، بدأ التاجر العراقي جوزيف سموحة تجفيف البحيرة. بعدها، حصل بنفوذه الاقتصادي وعلاقاته الملكية على حق الانتفاع بمئات الأفدنة من وزارة الأوقاف، مقابل استصلاحها. خطط سموحة للحي كي يكون منطقة "سكن راق للعائلات الارستقراطية والأجانب".
عقب إعلان الجمهورية في الخمسينيات، وهجرة الأجانب في الستينيات، ترك جوزيف سموحة مصر، ودفعت الحكومة المصرية تعويضاً مالياً لنظيرتها البريطانية مقابل التنازل عن المنطقة. 
مع بداية عصر "الانفتاح" في عهد الرئيس السابق أنور السادات، وتغير التوجه من الاشتراكية نحو الرأسمالية في السبعينيات، تصاعدت حركة المقاولات، ومعها طبقة جديدة من الأفراد والمجموعات العاملة في مجال شراء الأراضي، وقطاع التشييد والبناء، خاصة في المناطق الجديدة، ومنها سموحة.
كان والد دينا أحد هؤلاء. تقول إن حصول والدها على أرض منزلهم بسعر منخفض كان سببا رئيسيا للتغيير من دون أن تشكل فكرة قِدم أو حداثة المدينة، ولا مسألة المكان الذي نشأت فيه جزءا من نقاش الأسرة حول الانتقال. لم يكن الأمر سوى فرصة للترقي وترك المنطقة الشعبية التي كانوا يقطنونها، على الرغم من كون سموحة وقتها منطقة بعيدة تقع على أطراف الإسكندرية.
تصف دينا أصحاب البناية القديمة بأنهم كانوا "أشخاصا غير جديرين بالاحترام، وسيئي السمعة"، إلا أن انتقال العائلة من منزل إلى آخر داخل حي سموحة، ظل مرتبطاً بالترقي والصعود الاجتماعي للأسرة. "انتقلنا من بناية إلى الثانية، كانت نقلة كبيرة أيضاً، لأن الثانية كانت أكبر، وأسفلها مجمع تجاري يقصده الإسكندرانيون للتسوق والترفيه". 

تحولت العديد من شواطئ الإسكندرية العامة إلى مشروعات استثمارية (Getty)
تحولت العديد من شواطئ الإسكندرية العامة إلى مشروعات استثمارية (Getty)

لم يكن لدى دينا حينها ارتباط مع أحياء مدينة الإسكندرية الأقدم. تقول: "علاقتي بالمدينة تكونت على مرحلتين، أولها الزواج والعمل الذي سمح لي بالخروج والاحتكاك بالمدينة، وثانيها مرحلة الثورة التي وطدت ارتباطي بالإسكندرية. قبل ذلك، كنت معزولة اجتماعيا. ماما كانت تقول: المناطق الشعبية مثل حي بحري احنا منروحهاش". 
انحصر الارتباط بأحياء المدينة في محبة القديم منها، من دون الانتقال للمعيشة فيها. "مش عايزه أمشي من سموحة. أنا مبسوطة هنا. كل الخدمات التي أحتاجها موجودة، بالإضافة إلى قربها من وسط المدينة التاريخي. ربما لو كنت أعيش بمنطقة أخرى من سموحة كان الأمر سيختلف، أو سيكون أسوأ. لا أحب الذهاب إلى الجهة المقابلة، حيث منطقة سيدي جابر المحطة وما بعدها، بالنسبة لي، الناحية التانية مش موجودة، سيدي جابر، ورشدي، وسان ستيفانو، وسيدي بشر، كلها بالنسبة لي ملغاة، لا أحبها. هي مناطق لا ترتبط بأي تاريخ، وليست سوى أماكن مكتظة على الدوام، وأنا أكره الزحام".
يستقر في الجهة المقابلة التي لا تحبها دينا، عدد من النوادي المهنية للقضاة والمهندسين والمعلمين وغيرها، والتي تحجب شاطئ البحر. في هذه المناطق لا يمكن نزول البحر، خلافا للأحياء القديمة. صحيح أن الشواطئ هناك الدخول إليها بتذاكر، لكنه لا يزال متاحاً في بعض منها. 

تربط دينا بين شعورها بالأمان وبين عيشها في سموحة. تصمت لبرهة ثم تُكمل: "أعتقد أن جزءا من تحمُلي العيش والبقاء في مصر هو أني أعيش في مساحة أمان. لا أحاول تعريض نفسي لأي شيء يمكن أن يُنغص علي عيشتي. الاحتكاك بالناس والاستغراق في التفاصيل يؤدي إلى مشكلات، ولا أود أن أرهق نفسي بأشياء ضاغطة. أي حاجة خارج سموحة مبروحهاش".
وتضيف: "أحياناً أشعر أنني أعيش داخل فقاعة. لكن هذا لا يهمني. الفقاعة طريقة مناسبة للتكيف مع مصر. تعتبر منطقة سموحة بالنسبة للإسكندرية أشبه بكومباوند، لكن من دون سور مادي. وارتباط خريطة تحركي بهذا المجتمع خلق نمطاً محدداً لشكل حياتي، مرتبط بالحي نفسه، حيث أتمتع بالعضوية في نادي سموحة الرياضي، وتعيش أمي ووالد ابنتي إلى جواري. في بعض الأوقات أزور الأماكن الأخرى على سبيل النزهة، فليس من الضروري أن أعيش فيها، خاصة وأن حياتي داخل المدينة، والبلد بأكملها، باتت على المحك مع شعوري الدائم بالعجز عن التأثير".
خلال السنوات الماضية، شاركت دينا في مبادرة لـ"إنقاذ هوية الإسكندرية". حاولت من خلالها وقف نزيف الهدم والتغيير البصري والعمراني في المدينة، لكنها تُكمل: "لم نتمكن من عمل شيء، ولم يتغير شيء، وقد أزعجني ذلك. حاولت تدارك الأثر النفسي لعدم القدرة على التأثير بتغيير منظوري، وعدم تقييم الأمور بشكل حاد، ولم أعتبر أن خسارة معركة الدفاع عن المدينة في وجه التطوير الخرساني هي النهاية. قلت لنفسي: طيب خلاص، مش مهم المباني، على الأقل لسه فيه بحر، وباقدر أتمشى على الكورنيش، ولسه الأماكن القديمة موجودة، لكن الوضع الحالي يدمر ما حاولت أن أواسي نفسي بوجوده. أخرجوا إسكندرية مني، ويبقى أن أخرج أنا منها".

حجب رؤية البحر في الإسكندرية يتواصل (Getty)
حجب رؤية البحر في الإسكندرية يتواصل (Getty)

يُحوّل التغيير الجاري في المدينة فرص الحياة البسيطة إلى حياة مكلفة، وهذا ما تبغضه دينا، تقول: "مبحبش الحياة اللي كلها أماكن أنيقة، حتى المساحات العامة تتناقص، وهذا يجعلني أنفر من المدينة بشكل عام، ليس فقط من الإسكندرية، ولكن حتى في مناطق مثل سيوة (غرب)، ودهب (شرق). تتجه العمارة نحو شكل يقضي على الطبيعة، وهذا يزيد من رغبتي بالعيش في مكان تكون الطبيعة والمساحات العامة جزءا منه. ومن هنا يصير السفر أكثر إلحاحاً". 
ويرى المعماري أحمد برهام أن "هدف عملية التحديث الرسمي الجارية هو إعادة تصميم المدينة بطريقة تحصر قدرة البقاء فيها على من يستطيع تحمّل الأعباء المستجدّة. يجري تعديل المدينة بحيث تقتصر طبقيَّا على الفئات الأغنى، وفرض المساحات مؤقتة الاستخدام، مثل المعارض الفنية والأنشطة الترفيهية والتجارية المُتغيرة باستمرار".
للأمر تداعياته الاجتماعية، إذ كلما زاد منع الناس من دخول حيز ما، كلما زادت الجرائم، وفق دراسة عمرانية حديثة لباحثتين من كلية التخطيط العمراني والإقليمي بجامعة القاهرة.
هناك سبب شخصي آخر لعب دوره في تردّد دينا حول قرار الهجرة، وهو موقف طليقها الرافض لسفر ابنتهما معها، وقد عزّز هذا السبب رغبتها في التأقلم خلال السنوات الماضية، لكنها لم تعد قادرة على التحمل أكثر. تفكّر في أستراليا كوجهة مناسبة للهجرة، لأن شقيقيها يعيشان هناك، ما قد يسهّل السفر نسبياً، ويقلّل من الشعور بالغربة، خاصة وأن زياراتها السابقة تركت لديها انطباعا بأن "البلد وناسها لطيفين".  
ليس البقاء داخل المدينة المُتحولة وحده الذي يعد امتيازا طبقياً لا يملكه كثيرين، لكن الرحيل كذلك، فأمام الراغبين في ترك البلاد مساران للسفر، أحدهما قانوني، والآخر غير شرعي.
تتباهى السلطات المصرية خلال السنوات الأخيرة بأن "مصر لم تشهد خروج أي مركب هجرة غير شرعية من أراضيها"، حسب تصريح للرئيس عبد الفتاح السيسي في قمّة فيشجراد في أكتوبر/تشرين الأول 2021. تحوم شكوك حول دقة هذا التصريح، لكن يبقى أن قضية الهجرة، والحد من تدفق المهاجرين من دول الجنوب توجد على قمة أولويات المجتمع الدولي، لا سيما في أوروبا، الأمر الذي تستخدمه السلطات كورقة ضغط.
على الجانب الآخر، يتطلب اتخاذ المسار الشرعي إجراءات وأموالا ليس في مقدور كثيرين توفيرها. كما أن الطريق القانوني مقرون باحتمالات غير مضمونة النتائج، فعلى الرغم من تمتع دينا بامتيازات جيدة نسبياً، منها إجادة اللغة وتوفر المال، إلا أن ذلك لم يمنع رسوبها في اختبارات العمل المهني بأستراليا، والذي يمثل إجراءً واحداً ضمن سلسلة متطلبات للسفر، وستضطر لخوضها مجدّداً كي تتمكن من تحضير أوراقها بشكل رسمي. 
ليست دينا الوحيدة في محيطها التي قررت ترك مصر. سافر كثيرون بدوافع مختلفة، وكثيراً ما كانت الأسباب الاقتصادية هي الأبرز في حكايات الراحلين عن البلاد، لكن إفساح مجال أوسع للمُشاركة يتضمن مشاعر ودوافع أكبر وأكثر تعقيداً، أسقطت سهواً أو عمداً تحت وطأة ما هو أعنف وأوضح.


ينشر بالتزامن مع أوريان 21