ما زال ليبيون يسكنون في مناطق نائية يمارسون حرفاً وصناعات تقليدية تمثل جزءاً من تاريخ وهوية البلاد. ويتمسك بعضهم بشكل كبير بضرورة استمرارهم في مزاولة هذه الصناعات التي تعتمد على مهارات خاصة وأساليب متوارثة من عهود سابقة، لكن ذلك لا يمنع انقسامهم في شأن استمرار نشاطاتهم الحالية، إذ يتعامل بعضهم معها باعتبارها هواية أو مشاركة في الحفاظ على هوية البلاد، في حين يعتبرها آخرون مصدر دخل أساسي يساعدهم في مواجهة مصاعب الحياة.
وتتعدد الأنشطة التقليدية، وبينها صناعة أواني الفخار والأحذية والحُصر، وأيضاً تحضير أصناف خاصة من الأطعمة التي تنتشر في الأرياف والبوادي، ونقل بعض منتجاتها إلى المدن الكبيرة، حيث أقبل كثيرون عليها، ما أكسبها شهرة غير متوقعة بعدما كادت تندثر.
يختلف وجود الصناعات التقليدية بحسب توفر موادها الأولية. يعمل التهامي الزروق وأفراد أسرته في صنع أواني الفخار بالجبل الغربي حيث يتوفر الطين ومواد هذه الصناعة في مناطقهم، أما حليمة اشتيوي فتصنع الحُصر في مدينة تاورغاء، شرق مصراته، حيث يوجد نبات الديس الذي يستخدم في صنع الحُصر.
ويعمل الزروق وأولاده الثلاثة في صنع كل أشكال وأنواع أواني الفخار التي تكاد تندثر، ويشير إلى أن هذه الصناعة هي مصدر دخل إضافي مهم له، ويقول لـ"العربي الجديد": "ورثت هذه الصنعة عن أجدادي، وهي ذات شهرة كبيرة في مدينة غريان، وأحرص شخصياً على تعليمها لأولادي".
وينتشر عدد من محلات بيع أواني الفخار التقليدية على الطريق الرئيسي لمدينة غريان، غربي العاصمة طرابلس، ومناطق أخرى مجاورة، لكن الزروق يؤكد أن معظم أصحاب هذه المحلات لا يصنعون الأواني، بل يشترونها من أسر قليلة لا تزال تمارس هذه الصنعة، كما تعرض هذه المحلات أواني فخار غير مصنّعة محلياً بعد شرائها من تجار في تونس مثلاً.
ويواجه الزروق صعوبات كثيرة في مواصلة هذه الصناعة ونقلها إلى أفراد أسرته، ويقول: "معدات العمل بسيطة، لكن استخراج الطين بات مكلفاً ويحتاج إلى جهد مقابل دخل مالي غير مناسب، علماً أن شبان اليوم أصبحوا يبحثون عن وظائف ومهن تدر أموالاً أكثر".
وفيما يعيش الزروق بأمل الحفاظ على صنعة أجداده التي يتمسك بها كونها مصدر دخل يضاف إلى راتبه التقاعدي، تعتمد اشتيوي بشكل كبير على صنع الحُصر التي تعتبر مصدر دخلها الوحيد بعدما أصبحت تعيل أولادها إثر وفاة زوجها.
وتتحدث اشتيوي لـ"العربي الجديد"، عن الظروف الصعبة التي عاشتها مع أسرتها خلال سنوات التهجير والحرب الماضية، وتقول: "لا أعتقد بأن من يعيشون ظروفي يفكرون في الحفاظ على التاريخ والتراث، فأنا اضطررت لممارسة هذه الصنعة ولم أخترها. وكنت قد تعلمتها من خلال جدتي حين كنت صغيرة في السن، وعدت اليوم مجبرة للعيش منها".
وتؤكد اشتيوي استعدادها لترك مهنة صنع الحُصر إذا حصلت على مصدر دخل أفضل، وتقول: "أشعر بأن أشخاصاً كثيرين يشترون مني كونهم يشفقون على حالي، فمع كثرة أصناف السجاد والمفروشات لا أعتقد بأن أشخاصاً كثيرين يفترشون الحصر".
أما سالم اليدري فشجعه الإقبال على شراء زي الزفة الغدامسي على ترك مدينته غدامس والإقامة قرب الأسواق الكبيرة في العاصمة طرابلس للعمل في المهنة التي تعلمها على يد خاله، ويقول لـ"العربي الجديد": "الإقبال جيد على زي الزفة الغدامسي المخصص للمرأة، والذي يدمجه مصممون مع قطع من ملبوسات تقليدية".
ويبدي اليدري اعتزازه بالعمل بكل ما يتصل بالتاريخ العريق لمدينته، لكنه يؤكد أن دافعه الأساس لممارسة المهنة يتمثل في اضراره إلى البحث عن مصدر دخل لتطوير الوضع الاقتصادي لأسرته، ويقول: "سبق أن عملت موظفاً ونفذت مشاريع تجارية عدة، لكن عمري لم يعد يسمح لي بالتنقل والسفر كثيراً، وعملي الحالي في تطريز وحياكة زي الزفة داخل منزلي يبقيني قرب أولادي وأسرتي".
وفي سوق المشير بطرابلس تعرض محلات تجارية أصنافاً من المصنوعات التقليدية، مثل ملبوسات خاصة بالأفراح وسلال ومراوح وأطباق وغيرها.
ويعزو إبراهيم المكي، وهو صاحب أحد محلات بيع المقتنيات الشعبية، تراجع الاهتمام بهذه الصناعات إلى عدم وجود خطط حكومية خاصة بالسياحة وإهمال الترويج لها باعتبارها أصنافاً تعكس هوية ليبيا وتاريخها، ويقول: "أعتقد بأن الظروف القاسية وضعف فرص العمل جعلت أسراً كثيرة تحافظ على صلتها بالصناعات التقليدية اضطرارياً من أجل دعم ظروفها المالية المتردية، كما أن ظروف الحرب فرضت عمل أسر نزحت من شرق ليبيا في تحضير أطعمة تتصل بالتراث، وتسويقها عبر توصيلها إلى المنازل والإعلان عنها على وسائل التواصل الاجتماعي. وهكذا بات معظم سكان المدن يعرفون مثلاً أكلة المثرودة التي كادت تندثر لولا نجاح أسر معينة في إحيائها، استناداً إلى معرفتها بطريقة إعدادها كوجبة خاصة بالإفطار، والتي بات شبان كثيرون يتناولونها حتى في المطاعم".