نقلة نوعية تشهدها مشاركة المرأة في مختلف أنشطة الحياة بالمناطق الشمالية الشرقية من سورية، من بينها انضمام النساء إلى "لجان الوساطة المجتمعية" للمساعدة في حلّ الخلافات بالطرق السلمية في ظل غياب المحاكم الرسمية منذ انسحاب النظام السوري من المنطقة.
يتمحور عمل النساء في اللجان التي أسّستها مجموعة من منظمات المجتمع المدني، حول التدخل لإنهاء القضايا التي يكون أحد أطرافها من الإناث، ويوفّر حضورهن مساحة آمنة للسيدات كي يشرحن مشكلاتهن بحريّة، وتتشكّل تلك اللجان من عدد من وجهاء المجتمع والمؤثّرين ورجال الدين، وتعتمد في حل غالبية المشكلات على التقاليد والعرف الاجتماعي، وكذلك الخبرة القانونية لبعض أعضائها، وقد ساهمت في إنهاء مئات المشكلات المتعلّقة بالأحوال الشخصيّة، ومنها أحكام الميراث، والزّواج والطّلاق، وتسجيل الأطفال.
حول تجربتها كعضو لجنة حلّ النزاع في مدينة الرقة، تقول الثلاثينية إيمان خلف: "نهتم بمساعدة النساء اللاتي خرجن من مخيم الهول، وغالبيتهن من الأرامل والمعيلات، ولأن كل ما يخصّ المرأة حسّاس في مجتمعاتنا، كان لا بدّ من الاعتماد علينا كوسيطات، إذ نستمع لتفاصيل المشكلات التي تخجل المرأة من الحديث عنها أمام الرجال، وننقلها بدورنا لأعضاء اللجان، ثم نحاول إيجاد حلول فاعلة".
وتستذكر خلف العديد من المشكلات التي أسهمت في حلها، ومن بينها إجراء مصالحة بين سيدة ووالدها الذي رفض استقبالها بعد خروجها من "مخيم الهول" لاعتقاده بوجود أفكار متطرفة لديها، وتضيف: "لم يكن لدى السيدة أقارب، لذا لجأت إلى اللجنة، وقمنا بالوساطة مع والدها، وأصلحنا بينهما، ثم سجلناها في دورة للتدريب المهني لتستطيع العمل والاعتماد على نفسها، ما أسهم في تغيير نظرتها تجاه المجتمع".
يقع "مخيم الهول" بالقرب من الحدود السورية العراقية، ويضمّ آلاف الأسر التي نزحت خلال السنوات السّابقة بفعل المعارك والعمليات العسكرية، واستطاعت نحو 2064 عائلة الخروج من المخيم الذي يعاني سكانه من أوضاع مأساوية بسبب شحّ الخدمات، وتستضيفهم حالياً محافظتا الرقة ودير الزور، وتبذل اللجان جهدها لتحقيق عودة آمنة وكريمة للعائلات وأطفالها.
وأطلق عدد من الناشطين حملة بعنوان "بين أهلكم" للتعريف بعمل اللجان، ودعم جهودها في زيادة تماسك المجتمع وتكافله، والمساعدة في تأمين الاحتياجات الضروريّة للعائلات التي لا تملك الأوراق الثبوتيّة، لا سيّما الخدمات الطبّية، والمساهمة في ضمان وجود دخل مادي للعائلات عن طريق فتح مشاريع تستهدف الحرفيّين والمزارعين والمهنيّين، وتأمين منح للمشاريع التّجارية الصغيرة.
وتتولى حملة "بين أهلكم" بالتنسيق مع لجان الوساطة إنشاء مراكز للتّدريب المهني في مجالات مختلفة، مثل صيانة الحاسوب، والكهرباء، والخياطة، والتمريض، ودورات في فنون الطّهي وصنع الحلويّات، فضلاً عن ورشات التصوير الفوتوغرافي، ويجرى ذلك بالتّعاون مع منظّمات محليّة ودّولية تركّز على دعم الأيتام والأرامل والفقراء، إضافة إلى ذوي الاحتياجات الخاصة الذين يجرى تأمين الأطراف الصناعية لهم.
من مدينة الصور التابعة لدير الزور تتحّدث رقيّة عن تجربتها في لجان الوساطة التي ساهمت في حل الخلافات بين الأهالي حول السلال الغذائية والخبز والمازوت وغيرها من المواد الأساسيّة، مشيرة إلى أن اللجان تطمح إلى حل المشكلات التي تتعرّض لها العائلات الخارجة من مخيم الهول، ومساعدتهم على الاندماج في المجتمع.
وتضيف السيدة التي كانت قبل الثورة السورية تعمل معلّمة في مدرسة حكومية أن أهلها عارضوا في البداية عملها ضمن اللجان بحكم العادات المجتمعية التي تقيّد نشاط المرأة، لكنهم تقبلوا الموضوع عندما رأوا الأثر الإيجابي لعمل اللجان على المجتمع.
ومن بين قصص النجاح التي تحققت قصّة طفلة أصابها رهاب المجتمع بعد خروجها من مخيم الهول، ووصل بها الحال إلى الخوف من شاشة التلفزيون والأشخاص الذين يظهرون من خلاله، لكن لجان الوساطة استطاعت مساعدة الطفلة على الخروج من حالتها الانطوائية عبر دمجها بمبادرات مجتمعية خاصة بالأطفال، وتمكّنت بعدها من الالتحاق بالمدرسة، والاندماج مع زملائها.
ويبدو التخلّص من وصمة "تنظيم الدولة" التي لحقت بتلك الأسر مطلباً أساسياً لتسهيل حياتهم، وضمان اندماجهم، بما یسھم في تحقیق الاستقرار، وتؤكد إيمان خلف ضرورة زيادة التمثيل النسائي في اللجان بعد أن أثبتن فاعلية على الأرض، "لكن المطلب الأساسي هو إنهاء وجود المخيم، فلا تزال مئات العائلات عالقة داخله في دوامة من القهر والظّلم، وعلينا زيادة الدّعم للخارجين من المخيّم، وتأمين المساعدات للمناطق التي لم يصل إليها العمل الإنساني بعد، وهنا يتمثّل دور المنظّمات الدّولية في دعم مبادرات أكثر فاعليّة، والضّغط على صُنّاع القرار لحلّ المشكلات، وضمان حياة كريمة للأهالي بشكل عام، والنساء بشكل خاص".