استمع إلى الملخص
- التحديات الاقتصادية والاجتماعية: يواجه الأهالي تدمير البنية التحتية وانقطاع الخدمات الأساسية، بالإضافة إلى استغلال التجار وارتفاع الأسعار، مما يزيد من صعوبة الحياة اليومية، لكنهم يعتمدون على جهودهم الذاتية لإعادة فتح المحال وتلبية احتياجات السكان.
- الأمل والإصرار على البقاء: رغم الخسائر الفادحة، يظل الأمل والإصرار على البقاء قوياً، حيث يواصل السكان حياتهم اليومية ويعبرون عن حبهم لمدينتهم ورفضهم للتهجير، مؤمنين بأن صور لا تقارن بأي مدينة أخرى.
يحاول أهالي مدينة صور والقرى المجاورة العودة إلى الحياة الطبيعية من دون انتظار المعنيين للكشف على الأضرار وتقديم المساعدات. يريدون إعادتها إلى الحياة بأسرع وقت، هم الذين تضررت أرزاقهم
حالُ مدينة صور (جنوبي لبنان) ليس سهلاً في ظلّ الدمار الذي حلّ بها جراء القصف الإسرائيلي العنيف. إلّا أنّ بعض الأهالي حاولوا تفادي مشهد الدمار والتوجه نحو شاطئها للسباحة رغم الطقس البارد أو التأمل. يحاول أبناء "سيدة البحار" أن يعيدوا الحياة إليها. عند دوّار أبو ديب الشهير، ترى العمال يزيلون الزجاج المتناثر على الأرض، من بينهم عمال مطعم أبو ديب. يقول أحدهم لـ "العربي الجديد": "في الوقت الحالي، لا يوجد أيد عاملة تساعد في إزالة الردم". يقاطعه ناصر بدوي، أحد مالكي المطعم، قائلاً لـ"العربي الجديد": "عمال المطبخ بدأوا إزالة الردم ومعاينة الأضرار. لا نملك أي تقدير لخسارتنا المادية بعدما قضى القصف على منازلنا. لا تزال عائلاتنا في أماكن النزوح في شقق مفروشة في العاصمة بيروت". يتابع: "لا يمكننا انتظار البدء بدفع التعويضات أو إعادة الإعمار. المطعم في حاجة إلى إعادة ترميم وجميع المواد التي كانت مخزنة فيه تعرضت للتلف".
يُتابع بدوي: "الحرب على مدينة صور لم تكن حرباً عسكرية فحسب، بل حرب انتقامية للقضاء على اقتصاد مدينة صور ومشاريعها السياحية وفنادقها الأثرية، فماذا تقاتل إسرائيل على شاطئ صور؟". وما من إحصاء رسمي حول عدد المباني المتضررة. إلا أن الأهالي يقدرون عددها بحوالي 50، تتراوح بين ثلاثة طوابق و 12 طابقاً. كما تضرر محيط هذه المباني.
بدأت بعض المحال التجارية القريبة من دوّار أبو ديب الاستعانة بشركة مقاولات لرفع الأنقاض. يقول العامل من مخيم البرج الشمالي (قضاء صور) محمد الحسن: "أضرار بعض الناس طفيفة، وهؤلاء لا ينتظرون كشف الأضرار والتعويضات ويريدون فتح مصادر رزقهم". ويشير إلى أنهم يواجهون مشكلة كبيرة في مدينة صور تتعلق بإزالة الردم الذي يحتاج إلى أماكن ومكبات مخصصة. يضيف: "ليس في المدينة مكبات للردم. لذلك، نعمل على نقل الردم إلى أماكن في الحوش والقرى المجاورة لصور. هذه كلها كلفة مضاعفة على المتضررين، وستتزايد أسعار اليد العاملة في الأيام المقبلة، وكذلك أجرة المعدات وكلفة نقل الردم".
قبل بدء سريان وقف إطلاق النار فجر الأربعاء 27 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، شن العدو الإسرائيلي غارات عنيفة على المدينة. وخسر العديد من أهالي المدينة منازلهم خلال الغارات الأخيرة. تقف منى البدوي أمام منزلها وبدت عاجزة عن الإجابة عن أسئلة "العربي الجديد". اكتفت بالبكاء والاعتذار لعدم قدرتها على الكلام.
في شارع الرمل، فتح الشاب حسن شرف الدين محله التجاري المتضرر لبيع الأدوات الكهربائية. كان يُدعّم مدخل المحل كي لا تتعرض البضائع التي يملكها إلى أضرار إضافية. حالياً، يسعى جاهداً مع أسرته للعودة إلى العمل وإصلاح خطوط الكهرباء. يقول لـ"العربي الجديد": "نعمل على إصلاح متجرنا لتلبية طلبات الزبائن وتأمين مستلزماتهم الأساسية. لم ننتظر تقييم الأضرار ولا يهمني ذلك، فما يهمني هو أن تستعيد مدينتي الحياة، والله يعوضني".
في شارع الصاوي في المدينة، ينهمك أهله بإزالة الركام. أصروا على تفقد منازلهم المتصدعة رغم أنهم يعرضون حياتهم للخطر، إذ لم ينتظروا أي مسح أولي للأضرار. لم تدمر معظم المباني السكنية، إلا أن بعض طوابقها متضرر بشكل كلي.
يعمل عدنان بحر، وهو صاحب متجر للدواجن، على ترميمه ورفع الأنقاض وكنس الزجاج. يطلب منا عدم الاقتراب من سقف أي مبنى خشية وقوع بعض الأعمدة والحجارة. يصف بحر لـ "العربي الجديد" حال المدينة بالمنكوبة، إذ لا كهرباء ولا مياه ولا اتصالات. تحاول البلدية ضمن قدراتها تأمين المياه، "لكننا نعمل بشكل فردي، ولم تأت بعد أية جهة للكشف على الأضرار". لم يتأثر مصدر رزقه فحسب، بل تعرض منزله أيضاً في منطقة العباسية لأضرار كبيرة نتيجة القصف الإسرائيلي. يقول: "البيت لا يصلح للسكن. نزحنا إلى مدينة صيدا وكنت أدفع 1600 دولار أميركي بدل إيجار المنزل. اليوم، عدنا إلى بيوتنا ونبحث عن شقق للإيجار في محيط المدينة. لا يمكن أن يبقى محل الدواجن مغلقاً كونه مصدر رزقي اليومي. أغلقنا قسراً لأكثر من 60 يوماً ولا يمكن أن نستمر على هذا الحال". كما يتحدث بحر عن استغلال التجار للأسعار، لا سيما وأن المحال والمتاجر الغذائية لم تفتح بعد. فسكان المدينة يلجؤون إلى منطقة البص للتبضع.
أمام صالون للحلاقة، يقف الشاب محمد طفلا الذي خسر والده باستهداف منزلهم. يقول لـ"العربي الجديد": "عمر صالون الحلاقة 35 عاماً. رممته وجعلته يحاكي جيلنا. لا قيمة للأضرار بعد خسارة أبي المواطن المدني الذي بقي في المدينة. لكننا نحاول مسح الغبار عن مصدر رزقنا كي نكمل حياتنا". عائلة طفلا التي نزحت إلى منطقة الشوف (محافظة جبل لبنان) بقيت فيها بانتظار عودة الحياة إلى المدينة.
على شاطئ صور، يمارس خليل بندر وزوجته هوايتهما، السباحة. أهالي المدينة يقولون إنهما يعيشان 365 يوماً على البحر. يقول بندر لـ "العربي الجديد": "صور هي عشقنا. يقع منزلي على الطابق الحادي عشر حيث لا كهرباء ولا مياه. نصعد الدرج مرات عدة كل يوم مشياً. كان يمكننا البقاء في بيروت إذ لدينا منزل فيها، لكن لا يمكننا الابتعاد عن صور". يملك بندر مكتباً للسياحة والسفر في المدينة وقد تدمر بشكل كامل، كما تدمرت مستودعات للتخزين يملكها ولحقت الأضرار بمنزله. يقدر خسارته بحوالي 200 ألف دولار أميركي. في الوقت نفسه، لا يثق بتعويضات الدولة والمنظومة السياسية، قائلاً: "ستأتي المساعدات وسيتم سرقتها كالمعتاد". لكن من يسكن في صور لا يمكنه الابتعاد عنها، على حد قوله. يضيف: "صور لا تقارن بمدن العالم".
يحاول أبناء المدينة الذين يملكون مقاهي ومطاعم على الواجهة البحرية إعادة إحيائها. ومن لا يستطيع استئناف العمل بسبب الأضرار، يجلس فوق الدمار مع الجيران ويدخنون النرجيلة، مصرين على البقاء في الأحياء إلى حين عودة الحياة تدريجياً إليها. على شاطئ الجمل في صور، كان العم يوسف مصطفى يحاول اصطياد بعض الأسماك. يقول لـ "العربي الجديد" إنه "يسكن في البحر منذ 50 عاماً". يضيف أن "القصف الإسرائيلي على صور كان عنيفاً". أغلق منزله المتضرر بالنايلون خشية العواصف. يضيف: "البيت يسترنا وأفضل من ذل التهجير. حتى اليوم لم يأت أحد للسؤال عنا".
يجالسه صديقه حسن بحر الذي يملك منزلاً في بلدة البازورية (قضاء صور). يقول لـ "العربي الجديد": "البيوت متضررة بشكل كبير. عدنا إليها محاولين إصلاح ما أمكن وإغلاق النوافذ ببعض النايلون. نعيش هذه الأيام على ضوء الشمعة". يضيف: "لا تزال البازورية شبه مهجورة، ولم تفتح فيها بعد محال بيع المواد الغذائية. جلبت معي بعض المعلبات والحصص الغذائية لتأمين الطعام لأولادي". ويسأل عن خطة الدولة لإعادة الإعمار، وعن مصير المدارس في الجنوب.
في شارع الحلواني القريب من موقع آثار صور، والذي أغار عليه الطيران الإسرائيلي، يقول حسان حب الله، الذي يملك محلاً لتصليح الإطارات لـ"العربي الجديد": "تضرر المحل ومقتنياته. رأسمال المهنة أصبح للتلف. أصلحت الأضرار ولم أنتظر أحداً. حتى اليوم، لم يأتِ أحد لمعاينة الخسائر، لا البلدية ولا الأحزاب. تولى أهل المدينة كنس الشوارع وتنظيفها". يضيف: "تقدر خسارتي بحوالي 15 ألف دولار أميركي. عملت على تصوير المكان والأضرار التي لحقت به في حال قرر المعنيون التعويض لاحقاً. صرفنا كل مدخراتنا في فترة النزوح إلى برج حمود (بيروت). لدي ولدان ولا نعلم متى يعودان إلى التعليم. لا خطة تواكب عودة أبناء المدنية إليها".
في القرى المحاذية لصور، كالحوش ومعركة، يأتي الأهالي لتفقد منازلهم وتنظيفها وتجهيزها للشتاء بعد الدمار الذي أصابها. هذا ليس حال الشابة سارة فرحات ابنة قرية باتوليه (قضاء صور) التي تسكن في منطقة الحوش. تبحث عن أيّ أثر لبعض صورها وهي صغيرة بين الدمار. تقول لـ "العربي الجديد": "المبنى الذي نقطن به مؤلف من أربعة طوابق، ويحتوي على ثماني شقق سكنية، ما يعني أن هناك ثماني عائلات مشردة لن تعود إلى المنطقة". تتابع: "لا تزال عائلتي في بيت مستأجر في بيروت، ولا نعلم إن كنا سنبقى فيه. بالتأكيد سيتم التعويض علينا، لكن الأمور ليست بهذه السرعة".
وتختم فرحات حديثها قائلة: "في اليوم الأول لوقف إطلاق النار جئنا إلى الحي. لكنني لم أشعر بشيء حيال ما رأيت. وبعد يومين، لم أتمالك نفسي وانفجرت بالبكاء. هنا كل ما نملك، ولا أعرف كيف سأكمل سنتي الجامعية الأخيرة في طب الأسنان".
لا تزال بعض الشوارع في قريتي العباسية وطيردبا (قضاء صور) مغلقة جراء الردم، وقد تعرضتا لقصف عنيف. في ساحة بلدة معركة، يتجمع الأهالي ويجوبون بين أبنيتها المدمرة. تخرج سيدة سبعينية برفقة ابنتها من شارع مدمر، وهي تبكي وتتحسر على جنى العمر. تقول عن حال العودة: "ماذا أخبرك؟ هذه ليست عودة بل نكبة". في الساحة نفسها، فتحت الصيدلية أبوابها بالإضافة إلى صالون حلاقة للرجال. صالون الحلاقة شبه مدمر، لكن صاحبه يصر على ممارسة عمله فيه، وينتظر أبناء البلدة دورهم لحلاقة شعرهم.
غالبية المحال التجارية في طيردبا مغلقة. تقول طبيبة أطفال عادت إلى منزلها لـ"العربي الجديد": "في أول يومين، لم يكن هناك نقطة مياه للشرب، وقام أحد الأشخاص في البلدة بإعطائنا ربطة خبز. لم أكن أعلم أن الوضع كارثي. الكهرباء تأتي بشكل متقطع، فيما الإنترنت مقطوع ونشعر أننا في عزلة".