يوصي غالبية الجرحى الفلسطينيين الذين يتلقون العلاج في مصر ذويهم بأن يعيدوا جثامينهم إذا ماتوا إلى قطاع غزة كي يدفنوا فيها، بأي ثمن، وتحت أي ظرف، على الرغم من إتاحة مصريين مقابرهم لدفن الفلسطينيين تيسيراً على ذويهم.
ورغم تسجيل عشرات حالات الوفيات لفلسطينيين في مصر مؤخراً، لم يدفن سوى جثمان واحد في مدينة العريش، وهي لفلسطيني توفي إثر مضاعفات أورام، ولم تكن برفقته سوى زوجته، وفضل أولاده أن يُدفن حيث مات تجنباً لإرهاق أمهم التي رافقته طوال فترة علاجه.
وكشف موظف في مكتب خدمة المواطنين بمستشفى العريش العام، طلب عدم ذكر اسمه، لـ"العربي الجديد"، عن بعض تفاصيل إحدى حالات الوفاة التي لاقت صعوبات في رحلة إعادة الجثمان، إذ أرجأ القصف المكثف عودة الجثمان لنحو عشرة أيام، ظل خلالها في ثلاجة المستشفى، موضحاً أن المكتب يتولى مهام إنهاء إجراءات النقل للدفن بالتنسيق مع الجهات المعنية بناء على رغبة ذوي المتوفي، ومن دون مقابل، كما يزودهم باحتياجاتهم خلال رحلة العودة، الغذائية والطبية.
ينهي الفلسطيني صلاح خليل إجراءات نقل جثمان ابنه محمد من مصر إلى غزة، ويقول: "من يموت خارج غزة، ينبغي أن يُدفن فيها كي تنبت عظامه أجيالاً من المقاومة، فهي أرض الميعاد لجثمانه، ففيها محياه ومثواه".
كان الشاب محمد صلاح ضمن قائمة وفيات تخطت العشرين اسماً، وكان أبوه حريصاً على نقل جثمان نجله إلى القطاع، وإجراء مراسم تشييع جثمان كما جرت العادة بين موتى الفلسطينيين بالخارج. يوضح الأب المكلوم: "رغم انشغال الأهل والأقارب بتداعيات الحرب الكارثية، إلا أن هناك تقليدا يصل إلى حد العقيدة لدى الفلسطينيين، مفاده أن يُدفنوا حيث ولدوا، ورغم أن المصريين يعرضون علينا مدافنهم، ويتعاطف معنا الموظفون والمعنيون لتسهيل الدفن في مصر، إلا أن كل هذا يقابل عادة بالرفض، إلا في حالات قليلة. لم يعتد الفلسطيني ترك جثامين أبنائه ترقد خارج تراب وطنهم، فضلاً عن رغبة الأشقاء والأقارب في إلقاء نظرة الوداع الأخيرة على المتوفي، وتشييعه إلى مثواه الأخير، وفي ذلك رسالة جوهرها أن الفلسطينيين لن يتخلوا عن أرضهم أو قضيتهم، ولن يقبلوا بالتهجير، أحياء أو أمواتاً".
يقول خليل: "إجراءات نقل الجثمان كانت ميسرة، وبدأت فور التقدم بطلب النقل إلى سفارة فلسطين بالقاهرة، والتي خاطبت السلطات المصرية، والتي وفرت بدورها سيارة إسعاف لنقل الجثمان من المستشفى إلى معبر رفح، وهناك تسلمت سيارة الهلال الأحمر الفلسطيني الجثمان. لم تستغرق هذه الإجراءات سوى ساعات، وكانت تكلفة نقل الجثمان بسيطة، وتكفل بها المصريون، ومن حسن الحظ أن آلية العمل بمعبر رفح كانت تجري بوتيرة طبيعية في ذلك اليوم".
تسبب قصف الاحتلال في إصابة الفلسطيني سعيد عبد الحليم الجراح (48 سنة) بشلل رباعي وكسر في فقرات العنق، وقطع في النخاع الشوكي، لكن عقله وقلبه لم يتضررا، وظل عقله مشغولاً بمصير أولاده الأربعة الذين تركهم خلفه في مدينة خانيونس، كما ظل قلبه معلقاً بوطنه الذي ولد وعاش فيه، وأوصى بأن يدفن فيه بعد مماته.
نقل عبد الحليم للعلاج في "مستشفى معهد ناصر" بالقاهرة، وهناك لفظ أنفاسه الأخيرة. يقول ابن عمه محمد ماجد الجراح: "أصيب سعيد في غارة جوية إسرائيلية، وجرى نقله من مستشفى إلى آخر، ثم تقرر نقله إلى معهد ناصر بالقاهرة، ولما شعر باقتراب الأجل، جدد وصيته بأن يعاد جثمانه ليدفن إلى جوار أهله".
ويؤكد محمد لـ"العربي الجديد": "في ساعاته الأخيرة قال سعيد إنه يريد أن يودعه أبناؤه الأربعة، وأن يزوروا قبره كل حين، ويريد لذريته أن تعتبر عظامه أوتاداً تشدهم إلى وطنهم مهما جرى، حتى لو استمر العدوان لسنوات. تولت السفارة الفلسطينية بالقاهرة التنسيق مع السلطات المصرية، وتكلفة نقل الجثمان بسيطة، لكن العودة مرتبطة بمدى جاهزية معبر رفح من الجانب الفلسطيني، فالمعبر بات هدفاً لطائرات الاحتلال، كما أن سيارات الإسعاف منشغلة بنقل المصابين، ما يؤخر عملية نقل الموتى، فالأحياء أولى بالطبع".
يتابع: "وفرت وزارة الصحة المصرية سيارة إسعاف لنقل الجثمان إلى معبر رفح البري، وهناك تم إنهاء الإجراءات، وبعدها جرى نقل الجثمان إلى سيارات الهلال الأحمر الفلسطيني، والتي نقلته إلى خانيونس. يحرص الغزيون على إتمام مراسم الدفن بالطريقة المتوارثة، ورغم ظروف العدوان والقصف الذي لا يكاد ينقطع، أقيمت صلاة الجنازة بحضور الأهل والأقارب، وبعدها جرى تشييع الجثمان إلى مثواه الأخير".