يوم الأرض، في غزة، مليء بمشاعر مؤلمة، إذ يعيد الأهالي إلى أحداث مسيرات العودة، عامي 2018 و2019، التي قتل الاحتلال كثيراً من المشاركين فيها
عدا عن ذكريات الألم والفقد التي يتسبب بها يوم الأرض للفلسطينيين في قطاع غزة، ممن خسروا أحباءهم في مسيرات العودة، التي نظمت إلى الحدود الشرقية للقطاع، وفتحت قوات الاحتلال النار على المشاركين فيها، فإنّ هناك من تشغلهم وثائق وخرائط وصور قديمة ومفاتيح، ورثوها عن أجدادهم ممن عاشوا نكبة العام 1948. وهي الكنوز التي نقلوها معهم في تهجيرهم إلى مناطق الشتات المختلفة، ومنها غزة. في القطاع، يحتفظ الأبناء والأحفاد، اليوم، بتلك الوثائق التي يصرّون على توريثها من جيل لجيل بما يحفظ ذاكرة العودة.
أدهم اديب سليم المدهون (32 عاماً) ناشط شبابي من غزة، تعود أصول أهله إلى مدينة المجدل المحتلة خلال النكبة الفلسطينية عام 1948. عائلته من أكبر العائلات من مدينة المجدل، وأقامت بعد الهجرة في أكبر مخيمات قطاع غزة التابعة لوكالة الأونروا، حتى أنّها أصبحت تعتبر من أكبر عائلات القطاع اليوم، من المهجّرين. عاش جده في البداية في مخيم الشاطئ، وأنجب 13 ابناً، منهم من ولد في المجدل. يحافظ المدهون على وثائق ملكية جده لأراض في مدينة المجدل تعود إلى أربعينيات القرن الماضي، وقد غلفها كي لا تهترئ أكثر. تحمل الوثائق ختم حكومة فلسطين، وعليها تاج ملكي وأسد في إشارة إلى الانتداب البريطاني. كان جده تاجر قماش قبل النكبة، وفي غزة علّم أبناءه الخياطة فعملوا فيها. كان جده كثيراً ما يأمل بالعودة إلى أرضه ويحافظ على المستندات أكثر مما يحافظ على غيرها مما يملك، بحسب حفيده. يقول المدهون لـ"العربي الجديد": "هذه الأوراق إثبات للملكية في أرض فلسطين، وعلى العكس من الرواية الإسرائيلية، فإنّ وثائق ملكية جدي تثبت ملكيته 150 دونماً، لكنّه توفي في السبعينيات، وأصبح لجدي أحفاد من بعض أحفاده. وصل نسل جدي وحده إلى نحو 100 فرد، لكن حتى اليوم، في اللقاءات الشبابية وحتى أمام السياسيين، أتحدث عن إثباتات الملكية التي نحافظ عليها، وسنورثها لأبنائنا وأحفادنا".
في مخيم الشاطئ، غربي مدينة غزة، يملك أحمد صيام (42 عاماً) وثيقة ملكية أراضٍ خُتمت بعبارة: حكومة عموم فلسطين. تبيّن الخريطة ملكية جده المتوفى قبل 15 عاماً في عمر 87 عاماً، فريد صيام تلك الأرض التي تبلغ مساحتها عشرين دونماً. كانت من أهم الوثائق التي أخرجها جدّه معه خلال التهجير من قرية الجورة التي تقع على شاطئ البحر الأبيض المتوسط على بعد كيلومترين إلى الغرب من مدينة المجدل. كان جده يحتفظ، عندما هُجّر من أرضه، بوثائق ملكية الأراضي، وبجواز سفره المسجل باسم حكومة عموم فلسطين كذلك، والذي كان باللغتين العربية والإنكليزية، ودفتر العائلة، علماً أنّ بعض أنسبائه هُجّروا إلى مدينة غزة، فيما جزء آخر غادروا إلى مخيمات الضفة الغربية والأردن. وبعد وفاته جرى توزيع كلّ واحدة من الوثائق والمستندات على الأبناء، واحتفظ إبراهيم صيام، والد أحمد، بوثيقة الملكية لأنّه الأكبر بين أشقائه السبعة. يقول صيام، لـ"العربي الجديد": "عندما احتل قطاع غزة، عام 1967، وبدأ أهالي القطاع يذهبون إلى الأراضي المحتلة للعمل، كان جدي يسأل والدي في كلّ مرة: هل شاهدت الجورة؟ أو هل مررت منها؟ وفي مرة، دخل جدي إلى الأراضي المحتلة في الثمانينيات، رفقة والدي، وشاهد أرضه المغتصبة، وبكى كثيراً. وجدها مزروعة بالفواكه، فنادى مسؤول المزرعة فرحب به الأخير في البداية، لكنّ جدي نظر إليه وقال له: هذه أرضي، فغضب مسؤول المزرعة، وصرخ في وجه جدي: روخ (ارحل)".
شلبي هارون (50 عاماً) يقيم في حي الرمال بمدينة غزة، تعود أصول أسرته إلى قرية وادي حنين، إلى الغرب من مدينة الرملة المحتلة، على بعد تسعة كيلومترات منها. والده سعدي هارون كان يحتفظ بوثائق ملكية الأراضي في يافا ووادي حنين. واليوم، يحتفظ بها شلبي، ويرفض التفريط بها. كان والده تاجر زيتون وحمضيات، وتوفي عام 2005 عن عمر مائة عام. كان لدى والده 43 دونماً في يافا، وكان يزرع فيها الزيتون والحمضيات، ويصدّرها الى تركيا وقبرص وإيطاليا، كما كان يملك 4 دونمات في وادي حنين، إذ كان يزرع بالقرب من منزله أشجار النخيل، وعلم في بداية التسعينيات أنّ منزله كان لا يزال على حاله، وحتى النخيل. لكنّ شلبي لا يعرف شيئاً عمّا حلّ بالمنزل اليوم. يقول لـ"العربي الجديد": "أوراق ملكية الأراضي ليست مجرد عقود عادية، بل إنّها لكثيرين فلسطين التاريخية. الحسرة كانت أكبر لدى من ضاعت أوراقهم الثبوتية خلال التهجير، فالجميع كان يظنّ أنّها مسألة أيام قبل العودة إلى أملاكهم وأراضيهم، خصوصاً بعد قرار الأمم المتحدة 194 بالسماح للاجئين بالعودة لديارهم وتعويضهم" وهي الغربة التي طالت أكثر من 72 عاماً، حتى اليوم.