لطالما كانت الحوادث المختلفة، بما فيها جرائم العنف والانتحار، تُسجَّل في مصر، سواءً أنقلها الإعلام أم لم ينقلها، وسواءً أوقعت أمام شهود أم بعيداً عن الأنظار. لكنّ ما يُلاحظ أخيراً في هذا السياق يأتي أكثر حدّة، بحسب ما يلفت مراقبون.
في يوم كئيب مرّ على المصريين، وقعت جريمتا قتل بشعتان؛ إحداهما في وضح النهار على مرأى ومسمع الشهود، بالإضافة إلى حالة انتحار مؤسفة وكذلك محاولة انتحار باءت بالفشل. ففي صباح يوم الإثنين، العشرين من يونيو/ حزيران الجاري، قتل طالب في جامعة المنصورة شمالي مصر زميلته لإصرارها على رفض الزواج منه، بحسب ما أفادت التحقيقات الأولية. وفي الساعات الأولى من ليل ذلك الإثنين، أقدم شاب على الانتحار وقد رمى نفسه من أعلى برج القاهرة. وبعد ساعات، حاول شاب آخر في المنصورة الانتحار بسيارة "نص نقل" من أعلى جسر جامعة المنصورة. وقبل حلول منتصف الليل بقليل، قتل شاب أخته بسكين في محافظة الأقصر جنوبي البلاد.
ومثل هذه الحوادث تشير إلى خلل مجتمعي جسيم، نظراً إلى كونها تأتي متكررة في سياق زمني قصير، وليست مجرّد حالات تحدث في فترات زمنية متباعدة. ويأتي إلى جانب ذلك العنف اللفظي المتبوع بعنف جسدي، وقد تنبّه مصريون للأمر قبل فترة، وكانت تبريراتهم المبدئية هي انتشار المخدّرات أو الانفلات الأخلاقي أو غياب الوازع الديني أو ارتفاع الأسعار وغلاء المعيشة. يُضاف إلى ذلك الكبت، والأوضاع الحياتية الصعبة وعلو سقف الطموح وتفشي الذكورية وغياب الردع والعنف المجتمعي وسيناريوهات البلطجة في السينما والتلفزيون. وقد تكون الإجابة عن سؤال حول الأسباب "كلّ ما سبق" في حال ترجمة الديستوبيا إلى واقع فعلي، لذلك تظلّ السياسة متهماً رئيسياً رغم كلّ التبريرات.
وفي الأدب المعاصر، ظهر نوع جديد سُمّي ديستوبيا وهو نقيض يوتوبيا، الذي يبرز تلك المدينة الفاسدة كما تخيّلها كتّابها بكلّ ما تحمله كلمة فساد من معنى.
وفي الآونة الأخيرة، تُسجّل حوادث وجرائم عنف ذات طابع مختلف، وإن جاز التعبير فهو أكثر دموية. على سبيل المثال، ذبح مواطن في أحد شوارع محافظة الإسماعيلية شمال شرقي مصر نهاراً على مرأى من الجميع، وذبح طالب أحد أصدقائه في محافظة كفر الشيخ بأقصى الشمال المصري، وقتل رجل زوجته واستخدام أبناءه كدروع بشرية في محافظة الفيّوم وسط البلاد، وقتلت امرأة أبناءها قبل محاولتها إنهاء حياتها، إلى جانب الحوادث الأربعة البشعة التي وقعت كلها في يوم واحد، أوّل من أمس الإثنين.
علمياً، ينشأ العنف الاجتماعي من خلال انتشار ثقافة تقوم على النرجسية ورفض الآخر والانغلاق. ولا تخلو أيّ ثقافة من العنف ما بين قهر التقاليد وقهر الأسرة والقهر الاقتصادي وذلك السياسي حتى تكاد ثقافة العنف تبدو جزءاً من طبيعة الأمور، فيسود التناقض علاقة الفرد بالمجتمع، وهو ما ينعكس على تصرفات الفرد ويترجَم في النهاية إلى صراع وعنف وعدوان. وإذا ضعفت سلطة القانون وتراجعت قدرة المجتمع على فرضه، يظهر العنف بوضوح، بل وتنفجر العدوانية الكامنة، ويصير الاعتداء على القانون أمراً متداولاً بين أفراد المجتمع، مع استباحة الحدود والممتلكات، من دون مراعاة للمواطنة والجيرة والمشاركة والانتماء وحقوق الإنسان.
وبحسب دراسة للمركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، صادرة في عام 2021، حول العنف الموجّه ضدّ الفئات الأكثر ضعفاً (المرأة والطفل) في عام 2020، احتل القتلُ والشروع في القتل مقدّمة جرائم العنف مع 173 حالة، تلتها الجرائم الجنسية (اغتصاب وتحرّش وابتزاز) مع 38 حالة. وبملاحظة منحنى نوعية الجريمة، تَبيّن أنّ الاتجاه السائد هو نحو ممارسات أكثر عنفاً ودموية تجاه المرأة، خصوصاً في الجرائم الناجمة عن خلافات أسرية، بدلاً من ممارسات تُصنَّف أقلّ حدّة كالتعنيف اللفظي مثلاً.
يُذكر أنّ النسبة الكبرى لممارسات العنف ضدّ النساء ارتكُبت من فئة الشباب. وبالنسبة إلى التصنيف المهني للجناة، فقد استُنتج وجود علاقة طردية ما بين مستوى التعليم والأشخاص المعنيين. فقد كان مرتكبو جرائم العنف بمعظمهم من ممارسي المهن الحرة، أي الفئات الأدنى في المستوى التعليمي بحسب منهجية الدراسة، بواقع 95 جانياً. وانخفضت ممارسات العنف في المستويات التعليمية العليا؛ فكان عدد الجناة من بين الموظفين 30 جانياً، والأطباء أربعة جناة، أمّا من بين الأكاديميين فثمّة جانٍ واحد. واحتلت فئة العاطلين من العمل المرتبة الثانية مع 69 جانياً، الأمر الذي يطرح تساؤلاً حول علاقة البطالة بممارسة العنف ضدّ النساء في المجتمع المصري.
أمّا في ما يتعلق بتحليل الانتحار، فإنّ مصر تحلّ في المرتبة الأولى عربياً لجهة معدّلات الانتحار، متفوّقة في ذلك على دول تشهد نزاعات مسلحة وحروباً أهلية. ويليها السودان ثمّ اليمن فالجزائر، بحسب منظمة الصحة العالمية التي رصدت 3022 حالة انتحار بمصر في عام 2019، في حين يتجاوز عدد المحاولات الفاشلة هذا الرقم بكثير.
وما زالت السلطات المصرية تلقي اللوم على "نظرية المؤامرة" في ما يتعلق بمعدّلات الانتحار. وقد ذكرت في آخر الإحصاءات الرسمية الصادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في عام 2017 أنّ 69 حالة فقط وقعت في خلال العام المذكور، وقد رأى الجهاز أنّ "كلّ ما يتردد في هذا الشأن (بخصوص زيادة معدّلات الانتحار في مصر) شائعات تستهدف النيل من الاستقرار المجتمعي".
وبحسب دراسة صادرة عن المركز الديموقراطي العربي في عام 2021، فإنّ مؤشرات الانتحار في الآونة الأخيرة كانت متزايدة مقارنة بما كان الوضع عليه في السابق، بالإضافة إلى أنّ الانتحار تزايد بشكل كبير في فئة الشباب (20-35) بنسبة 81 في المائة، في حين أتى تزايد الانتحار في فئة المراهقة (13-20) بنسبة 19 في المائة. وأرجعت الدراسة ذلك إلى أنّ فئة الشباب هي أكثر الفئات العمرية التي تعاني من ضغط شديد من الجوانب كافة مقارنة بالفئات الأخرى، في حين أنّ الضغط الذي يعاني منه المراهقون قد يكون مجرّد ضغط دراسي أو تفكّك أسري، بخلاف الشبان الذين تتزايد ضغوطهم من نواحٍ دراسية وعملية واجتماعية، خصوصاً إذا كان الشاب هو معيل الأسرة بالإضافة إلى ضغط دراسته ورغبته في الزواج وتدهور مستوى المعيشة مع تضاؤل فرص العمل المتوفّرة له.
كذلك أرجعت دراسة المركز الديموقراطي العربي تزايد نسبة الانتحار عموماً إلى سيادة ثقافة تقلّل من أهمية المرض النفسي وتتهاون به، ومن أهمية العلاج النفسي والطب النفسي عموماً، خصوصاً أنّ الانتحار ما هو إلا نهاية بائسة لتفاقم المرض النفسي وعدم علاجه. وقد تناولت الدراسة الأسباب النفسية والدينية والاقتصادية والاجتماعية للانتحار، فمثّلت الأسباب النفسية الجزء الأكبر مع نسبة 62 في المائة، تلتها الأسباب الدينية (ضعف الوازع الديني) بنسبة 17 في المائة، ثمّ الأسباب الاقتصادية بنسبة 11 في المائة وأخيراً تلك الاجتماعية بنسبة 10 في المائة.