تشتكي العاصمة السودانية الخرطوم، هذه الأيام، من انتشار عصابات الخطف والنهب والسرقة التي يطلق عليها تسمية "9 طويلة"، ما يصيب السكان بهلع وخوف. ويربط البعض تسمية "9 طويلة" بلعبة الورق "كوشتينة"، وآخرون بحركة استدارة المجرمين بشكل يشبه الرقم 9 قبل خطف الضحية أو نهب ما يحمله، أكان هاتفاً أو حقيبة أو أموالاً أو مقتنيات ذهبية.
وتشكل الفتيات والنساء غالبية الضحايا التي تستهدفهم هذه المجموعات، وما زاد المخاوف أخيراً استخدام أفراد العصابات أسلحة نارية في تهديد المواطنين كي يستسلموا لهم ويسلموهم ما لديهم، ما جعل هؤلاء الأفراد يتورطون في جرائم قتل، علماً أنهم لا يعملون في أماكن محددة، فهم ينشطون في الأسواق العامة وداخل الأحياء ومحطات المواصلات أو الطرق العامة، أو قرب المصارف والبنوك والمحلات التجارية الكبيرة. وأظهرت كاميرات مراقبة منصوبة في شوارع وأماكن تضم مؤسسات، أن غالبية منفذي العمليات شبان وبينهم صغار يقل سنهم عن 18 عاماً.
ومنذ الانقلاب العسكري الذي نفذه قائد الجيش الفريق أول عبد الفتاح البرهان في الخامس من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وبرره بتدهور الأوضاع الأمنية في البلاد وبينها الانفلات الأمني في العاصمة، لاحظ كُثر من سكان العاصمة الخرطوم، أن هذا الفلتان تضاعف بعد الانقلاب، وأصبح جزءاً من الحياة اليومية حتى بعدما مضي نحو 6 أشهر من الانقلاب.
وفي ظل اتهام المواطنين السلطات الأمنية بالتباطؤ في التعاطي مع ظاهرة "9 طويلة"، بدأ سكان أحياء في الخرطوم بالتصدي بأنفسهم للمتفلتين عبر تنفيذ دوريات نهارية وليلية، لكنهم لا يُسلّمون من يوقفونهم للشرطة، بل يقيدونهم بحبال ويضربونهم بعنف، وفقاً للقطات فيديو تناقلها ناشطون على مواقع التواصل الاجتماعي، وأظهرت قيام المواطنين بأدوار شرطيين وتنفيذهم القانون بأنفسهم، من دون أن يبدي كُثر من الرأي العام ارتياحهم للظاهرة، باعتبار أن عواقبها المستقبلية كبيرة وقد تؤثر سلباً على المجتمع، خصوصاً أنها تدل على غياب الدولة ومؤسساتها. وقد تحدثت تقارير عن مقتل مجرمين أثناء توقيفهم على أيدي مواطنين.
في المقابل، نفت الشرطة تقصيرها وتهاونها في التعامل مع أي نوع من الجرائم المرتكبة في الخرطوم، وأكدت جديتها في الحدّ من ذلك الانفلات الأمني. وتحدثت في بيان أصدرته أخيراً عن توقيف عشرات المشبوهين في حملات نفذتها في الأيام السابقة، وتمشيط عناصرها عدداً من أحياء الخرطوم ومواقف عامة وأسواق وشوارع رئيسية فيها، والتي أفضت إلى احتجاز عدد كبير من الدراجات النارية والعربات بلا لوحات، وأسلحة بيضاء ومسدسات، في إطار خطط للحد من الجرائم المرتكبة في الخرطوم. كما شددت على أن هذه العمليات ستتواصل في الفترة المقبلة.
وتتحدث الدكتورة عرفة سر الختم، وهي موظفة في وزارة التربية والتعليم، لـ"العربي الجديد"، عن استهداف أفراد من مجموعة "9 طويلة" لها قرب مستشفى رويال كير في منطقة بري بالخرطوم. وتوضح أن شابين خرجا من مسرب لتصريف المياه وهاجماها حين كانت في طريقها لدخول المستشفى الذي تتواجد فيه والدتها، وحاولا انتزاع حقيبتها لكنها لم تستسلم لأن الحقيبة احتوت على أوراقها الثبوتية. وأشارت إلى أن الشابين أسقطاها على الأرض، فتدخّل بعض المارة لإنهاء حال الرعب، وخرجت من الواقعة بإصابات أبقتها 20 يوماً في المنزل، وجعلتها تعاني من فوبيا "9 طويلة" التي تطاردها في كل مكان.
وتعزو سر الختم الانفلات الأمني السائد في الخرطوم حالياً إلى تلاشي الثقة بين المواطنين والمنظومة الأمنية بعد الثورة، وتلمّح إلى "وجود تساؤلات كثيرة حول هويات أفراد 9 طويلة، ومدى علاقتهم بالنظام القديم الذي كان هدد سابقاً باستخدام كتائب الظل، أو حول علاقتهم بمجموعات مسلحة دخلت الخرطوم أخيراً ضمن عملية السلام". وأشارت إلى افتقاد اتهامات حالية كثيرة حول هوية هذه المجموعات للمصداقية، وجددت تأكيد أهمية بناء الثقة من جديد بين المواطنين والمنظومة الأمنية بما يحقق الأمن للجميع، كما اقترحت القيام بحملات توعية واسعة في هذا الشأن تتضمن جوانب أخرى غير بعيدة عن الظاهرة، مثل انتشار تعاطي المخدرات وسط الشباب.
ويقول الشرطي عمر عثمان لـ"العربي الجديد": "ظاهرة 9 طويلة ذات بعد اجتماعي مرتبط بالظروف الاجتماعية، وتدهور الأوضاع الاقتصادية والمعيشية. وتلعب البطالة وسط الشباب دوراً مهماً في انتشار الظاهرة المقلقة، إلى جانب انعدام الاستقرار السياسي في البلاد في الفترة الأخيرة، كما يبدو جلياً ضعف أداء جهاز الشرطة لأسباب داخلية، أو بسبب التمدد الأفقي للعاصمة الخرطوم، وزيادة كثافتها السكانية في السنوات الأخيرة، ما يمنع انتشار رجال الأمن بشكل يوازي التمدد العمراني والبشري". ويلفت إلى الإشكالات المادية والبشرية التي تعاني منها الشرطة، وعزوف الشباب عن الانضمام إلى صفوفها بسبب ضعف الرواتب.
ولا يضع عمر نفسه في خانة المتشائمين الذين يتوقعون حدوث انفلات أمني شامل وكامل في الخرطوم، إذ يرى أن الدولة والمجتمع لا يزالان يملكان فرصة لتدارك الوضع عبر معالجات سياسية وأمنية واقتصادية والاهتمام أكثر بالشباب بتهيئة كل الظروف المرتبطة بها. وحذر بشدة من "الظاهرة المضادة" المتمثلة في تعامل المواطنين بعنف مع المعتقلين من مجموعات النهب. ويرى أن هذا الأمر "أكثر خطورة من الظاهرة نفسها، لأنّ عواقبها الاجتماعية والأمنية وخيمة"، مؤكداً أنّ "الحل الأمثل يتمثل في سيادة حكم القانون وإيصال كل مشبوه إلى العدالة كي تنفذ واجبها بالكامل".
ويوضح المحامي طارق الياس، في حديثه لـ"العربي الجديد"، أن "ظاهرة النهب والخطف بدأت في عواصم أفريقية قريبة، ثم انتقلت للسودان في السنوات الماضية بسبب موجات اللجوء والنزوح، لكنها لم تصل إلى الحدّ الذي وصلت إليه الآن بتأثير تفاقم التدهور المعيشي الذي يشكل العامل الأهم في ظاهرة 9 طويلة، فبعض أفرادها ممن فقدوا فرص العمل اليومي بسبب الظروف الاقتصادية".
ويتهم الياس الجهات الأمنية بـ"التواطؤ مع الظاهرة لتمرير أجندة سياسية، في تكرار لما فعله النظام السابق خلال تظاهرات شعبية واسعة ضده شهدتها البلاد عام 2013، ما جعله ينشر وقتها مجموعات منفلتة مماثلة من أجل إعطاء صورة للمواطنين بأن التظاهر ضده يحدث خراباً في البلاد، ويمنح المتفلتين فرصة لتهديد الأمن العام. وقد نجح النظام في الإفادة من هذه الاستراتيجية، فكررها خلال ثورة ديسمبر/كانون الأول 2018 من دون أن ينجح. وللأسف يريد منفذو الانقلاب الأخير إعادة السيناريو عبر التواطؤ مع ظاهرة 9 طويلة، والإبطاء في مكافحتها من أجل وقف المقاومة الشعبية الحالية ضده".
ويبدي الياس خشيته من تصدي المواطنين للمتفلتين عبر اعتقالهم وضربهم من دون المبادرة إلى تسليمهم للسلطات، ويشدد على أن القانون لا يعطي أي مواطن حق الاعتداء على المجرمين إلا في نطاق ضيق يتعلق بالدفاع عن النفس، والذي يحتاج في حد ذاته إلى شروط مشددة وإثباتات ذلك أمام المحاكم. وأي شخص يفعل عكس ذلك يعرّض نفسه للإدانة والعقوبة".
ويؤكد الياس ضرورة الإصلاح القانوني لتشديد العقوبة القانونية على المجرمين، من أجل ردع الآخرين عن التورط في جرائم مماثلة، و"وقد تقود حملات الشرطة الأخيرة إلى نتائج إيجابية وتعيد الأمور إلى نصابها، شرط إجراء معالجة استراتيجية متكاملة تشمل المجالات الاقتصادية والاجتماعية ويسبقها النظر في الجوانب السياسية ومطالب الشعب الذي يريد الحرية والسلام والعدالة، وتوفير الأمن الشامل لكل مواطن.
ويؤيد الصحافي محمد عبد العزيز تهمة استخدام انقلابيي العام الماضي فزّاعة الانفلات الأمني لتخفيف الضغط السياسي عليهم، ويقول لـ"العربي الجديد": "تتبنى الانقلابات دائماً تكتيكات خطرة تتعلق بسلامة ووحدة البلاد كمدخل لبسط سيطرتها على الحكم. والفراغ الأمني ممنهج ومقصود لهدفين، يتعلق أولهما بترويع الناس وكسر مقاومتهم للانقلاب، ويهدف الثاني إلى جر الناس لاستخدام العنف من أجل إيجاد مبرر لعنف أكبر، وكسر قيود الثورة السلمية التي كبلت الانقلاب. يتابع: "تتمثل الخطورة في خروج الأمور عن السيطرة في ظل تآكل مؤسسات الدولة وفقدانها القدرة على احتواء العنف، ما قد يقود إلى سيناريوهات مظلمة تتعلق بالانحدار إلى مرحلة اللا دولة، وحكم العصابات والمجموعات المسلحة."