تُسجل مراكز الشرطة في مختلف مدن العراق بلاغات متكررة من مواطنين حول تعرّضهم لعمليات احتيال ونصب ينفذها أشخاص يمتهنون الشعوذة، في إطار ما يُعرف محلياً باسم "العلاج الروحاني". وتعتبر هذه الظاهرة بين الأبرز التي عرفها المجتمع العراقي بعد الغزو الأميركي عام 2003، وسط تراجع واضح في ارتياد المواطنين العيادات والمستشفيات الخاصة بالطب النفسي.
يقول مسؤول في وزارة الداخلية، رفض كشف اسمه لـ"العربي الجديد": "تعاملت الوزارة منذ مطلع العام الحالي مع أكثر من 300 شكوى قدمها مواطنون من مدن مختلفة عن وقوعهم ضحايا لعمليات احتيال، وتعرضهم لأضرار صحية ذات نتائج خطرة، بسبب تناولهم خلطات ووصفات غير صحيحة، وأيضاً شكاوى أخرى تتعلق بالسحر والشعوذة والسرقة وحتى بالابتزاز والتحرش الجنسي". يُضيف: "تتعامل الشرطة وجهاز الأمن الوطني غالباً مع هذه الشكاوى التي من الملاحظ أنها لا تقتصر حالياً على مدينة من دون أخرى، وتشمل أيضاً مدن إقليم كردستان. وواضح أنّ الجهل والفقر سببان رئيسيان في انتشار مكاتب العلاج الروحاني، وازدهار أعمالها، في ظل إقبال كبير عليها"، رغم أن القانون العراقي يعتبر امتهان "العلاج الروحاني" جُنحة تصل عقوبتها إلى الحبس مدة لا تزيد عن خمس سنوات.
وفيما تقصد نساء كثيرات ممتهني الشعوذة والسحر، تتحدث شذى محمد (54 عاماً) لـ"العربي الجديد" عن خوضها تجربة تصفها بأنها "خطرة"، وتقول: "عانت ابنتي من أزمات نفسية، وقيل لي إنها ممسوسة، فقصدت الكثير من العرافين من دون أن أحصل على نتيجة خاصة بحالتها، باستثناء أنّ صحتها تدهورت بعدما أنفقت كل ما أملك من أموال على عرافين لم يجدوا أي حل لمشاكل أزمتها النفسية". تتابع: "نصحني أحد أقاربي بعد 4 سنوات من اللجوء مرات عدة إلى عرافين بالذهاب إلى طبيب نفسي، شخّص وضع ابنتي بأنها تعاني من عقدة نفسية، بسبب تعرضها لموقف غير ملائم في وقت مبكر من عمرها. ومهّد ذلك لتحسن وضعها في شكل كبير بعد أخذ العلاج، والالتزام بنصائح الطبيب".
من جهته، يقول محمد قاسم (47 عاماً) لـ"العربي الجديد": "أخبرني الأطباء بأنني عاجز عن إنجاب أطفال، فأقنعتني زوجتي بأنني لا أعاني من عقم، وما يحدث لي ناتج من تعرضي لسحر يمكن أن يحل مشكلته أي عرّاف، فقصدت عدداً من ممارسي العلاج الروحاني الذين أحتال جميعهم علي. وقد أنفقت خلال مراجعتي لهم نحو 20 ألف دولار، وفشلت كل محاولاتي في نهاية الأمر".
من جهته، يوضح اختصاصي الطب النفسي الدكتور حميد يونس، في حديثه لـ"العربي الجديد"، أن "العالم يبدو في حيرة بين الطب النفسي والمسائل الغيبية التي لا تزال تفرض سيطرتها على الواقع العربي. والمريض الذي يعاني من مشكلات نفسية يصطدم بسرعة بمعتقدات الجن والمس والممارسات الغيبية، ويدخل في دوامة لا نهاية لها، خصوصاً في ظل إصرار شرائح واسعة من المجتمع على اللجوء إلى طرق العلاج الشعبي التي تؤثر سلباً في عمل عيادات الطب النفسي".
يتابع: "الإنكار المجتمعي الذي يواجهه المرضى النفسيون بشأن حالاتهم يجعلهم يشعرون بخجل من الإفصاح عن زيارة الطبيب النفسي، ويمنعهم من ارتياد المصحات النفسية، فيسلكون طرق العلاج بالأوهام والطرق البدائية".
ويُشير إلى أن "الشعور بالخجل بشأن الإفصاح عن الأمراض النفسية أمر شائع في المجتمعات العربية. وفي العادة، يقلق الناس من زيارة الأطباء النفسيين كي لا يظن الآخرون أنهم مجانين، لكن هؤلاء الأطباء يحاولون فعلياً منح مرضاهم الشعور بالطمأنينة، ويبدون تعاطفاً أكبر معهم، من خلال الجمع بين العلاجات النفسية والجسدية".
وعن الأسباب التي تدفع الإنسان إلى الاستعانة بالعرافين والدجالين والسحر، يرى الكاتب والباحث في الأنثروبولوجيا الدكتور محمد غازي الأخرس، في حديثه لـ"العربي الجديد" أن "ظاهرة التوجه إلى العرافين شائعة منذ آلاف السنين، وتنتمي إلى مرحلة سادت فيها اعتقادات ما ورائية بشأن قدرة السحر على التحكم بالطبيعة، وبأن هناك قوى ما ورائية تسيّر الحياة. وهكذا اتجه الإنسان إلى السحرة والدجالين والعرافين لدفع الضرر واستجلاب المنافع وعلاج الأمراض، واستمرت الظاهرة طوال قرون، ونجحت حتى في الانتصار على التفكير العلمي، لا سيما لدى شرائح ينتشر فيها الجهل بشكل كبير".
ويشير إلى أن "الدين والعلم لم يفلحا في الحدّ من هذا التفكير إلا بنطاق ضيّق جداً، وانتعشت الظاهرة أكثر في الفترة الأخيرة بسبب الوعي السطحي، واستثمار السحرة والمشعوذين وسائل التواصل الاجتماعي، حيث توجد ملايين الصفحات لخدمات العرافة والتنجيم". ويعزو الأخرس هذا الانتعاش إلى "الثقافة العامة والمزاج السائدين اللذين يساهمان في انتشار الظاهرة".