استمع إلى الملخص
- **ظروف العمل القاسية لعامل التحويلة**: يواجه عمال التحويلة ظروف عمل قاسية تشمل ساعات طويلة وضغوط نفسية ومهنية، مما يؤدي إلى تدهور صحتهم وإصابتهم بأمراض مثل الضغط والسكر.
- **تجاهل تحسين أوضاع العمال رغم التطورات التقنية**: رغم التطورات في السكك الحديدية، لم تتحسن أوضاع العمال، مما أدى إلى زيادة حوادث القطارات وتوثيق السينما المصرية لبؤس حياتهم.
لم ينتظر عامل تحويلة (محولجي) كثيراً ليخرج من غرفة مستشفى إلى زنزانة حيث احتجز أربعة أيام على ذمة التحقيقات بقرار من النيابة العامة التي حمّلته كالعادة مسؤولية تصادم قطارين في مدينة الزقازيق، شرق الدلتا. في هذه الواقعة اتهم عامل التحويلة بأنه "أصيب بالسهو خلال تنفيذه مهمة تحويل مسار قطار قادم من الزقازيق إلى الاسماعيلية على قناة السويس شرقاً، فاصطدم بقطار متوقف كان قادماً من المنصورة".
وحمّل مسؤولية الحادث عامل التحويلة علي حسين (55 سنة)، الذي يشغل وظيفته في الموقع نفسه منذ 28 عاماً، ويشتهر بأخلاقه وانضباطه في العمل لدرجة أنه لم تسجل ضده أي ملاحظة تتعلق بعمله طوال فترة خدمته. وقد تردد أنه مريض بالسكري، وأصيب بغيبوبة سكري وقت قدوم القطار بسبب عدم حصوله على عقار الأنسولين الشحيح في مصر.
في حديث لـ"العربي الجديد"، يخبر عامل تحويلة يدعى حسن أنه يأتي إلى الكشك الصغير في طرف محطة بالصعيد، حيث تتقاطع خطوط السكة الحديدية، ويرتدي زياً بنياً كي لا تظهر عليه آثار 12 ساعة من العمل، حيث ينتظر باعتباره "حارس الأرواح" قدوم قطار مصحوباً بغبار شاهق ويطلق صفارة طويلة وقوية، ويتنبه إلى مروره بسلام إلى محطة أخرى.
ويخبر حسن بأنه يستيقظ في السادسة صباحاً كي يلتحق بعمله في الثامنة تماماً، ويقطع كيلومترات مستقلاً "توك توك" بثلاث عجلات بمبلغ عشرة جنيهات إلى أول البلدة، ثم يركب سيارة أجرة (ميكروباص) تنقله إلى وسط المدينة بمبلغ ستة جنيهات، ثم يستقل "توك توك" آخر إلى مكان عمله مقابل عشرة جنيهات. ويدفع حسن بالتالي 26 جنيهاً كاملة في الذهاب ومثلها في العودة عند الثامنة مساء، حيث يعمل 12 ساعة كاملة نهاراً ومثلها ليلاً في اليوم التالي، ويتبادل المهمة مع زميل آخر يعاني معاناته اليومية نفسها.
وهكذا يذهب مبلغ 1500 جنيه (30 دولاراً)، هي ربع مرتب حسن للمواصلات فقط، ويطير من جيبه يومياً مبلغ مماثل ينفقه لتناول الإفطار والغداء والشاي والقهوة والسجائر، فمن دون ذلك لا يستطيع أن يعمل 12 ساعة كاملة بتركيز مناسب لمراقبة شاشة الكمبيوتر المثبتة أمامه في كشك مراقب البلوك أو ملاحظ البرج كي يضغط على أزرار التحويل حين تنير الشاشة بلون أحمر للتنبيه بقدوم قطار في حال وجود عقبة.
وجرى تطوير المحطة التي يعمل فيها حسن في منطقة تمتد نحو 500 كيلومتر من محطة بني سويف شمالاً إلى سوهاج جنوباً، على الصعيدين التقني واللوجستي، إذ نُقِل كشك ملاحظ البلوك من مطلع المحطات إلى أقصى شمالها، بعيداً عن الركاب كي لا يشغلونه بأسئلتهم عن القطار القادم وهل سيتأخر أم لا، كما زُود الكشك بأجهزة كمبيوتر حديثة حلّت بدلاً من العصيّ الشهيرة القديمة التي كانت تستخدم في تحويل قضبان إلى مسار مختلف في حال وجود عقبة أمام القطار. وبات يحصل ذلك بأزرار الكومبيوتر، كما استبدلت كبسولات الصوت التي كان يضعها على القضبان لإحداث فرقعة تنبه سائق القطار إلى وجود عقبة أمامه بحساسات كهربائية حديثة على القضبان تبنه نظام القيادة الآلي في القطار كي يبطئ سرعته قبل الدخول في مساره الأصلي أو مسار مختلف عن الأصلي.
ويقول حسن: "كل هذه التطورات جيدة، وساعدت في تقليل الأعباء على المحولجي، لكنها لم تشمله أو تحسّن وضعه، فتقليل الأعباء المهنية عليه ذهبت هباءً في ظل الضغوط الكبيرة الملقاة عليه، على غرار سائق القطار الذي يضطر أحياناً إلى إيقاف الاعتماد على التقنيات من أجل تفادي عقوبات التأخير عن الوقت المطلوب أن يقطعه لتأمين وصول القطار في موعده. وهنا لا يلتزم بتعليمات المحولجي فيقع المحظور أحياناً".
ويُطلب من "المحولجي" أن يسجل في دفتر منفصل كل ملاحظاته حول الأعطال والخطوات والتعليمات التي أعطاها للسائق ولزميله في المحطات السابقة أو اللاحقة كي يثبت براءته في حال لم يتبع زملاؤه التعليمات والتنبيهات. ومسألة التسجيل عبء مضاعف لأنها قد تجعله ينشغل عن أمور أهم".
ويعترف حسن بأنه يفقد تركيزه الكامل بسبب تقدمه في السن. ومع نهاية يوم عمل يتضمن ساعات أكثر من المتعارف عليها والمعتمدة عالمياً يصبح الأمر فوق طاقة البشر رغم كل محاولات الاستمرار في الانتباه والتركيز عبر تناول شاي صعيدي أسود مركز وعدة فناجين قهوة كل ساعة. وهذا ما تسبب في إصابة عمال كثيرين بأمراض عدة بينها الضغط والسكر.
يضيف: "معظمنا مرضى ومديونون ومهمومون، ونُطالَب رغم ذلك بأن نعمل بكامل طاقتنا. ونحن نسأل إلى متى سنستمر صامدين لمنع الاصطدام، فأرواح آلاف المصريين معلقة برقبة عامل تحويلة بائس ومريض ومديون ومهموم".
قبل سنوات كان حسن يعمل ثماني ساعات ضمن ثلاث ورديات مع زميلين. ومع توقف التعيينات في هيئة السكك الحديدية، كما حصل في كل مرافق الدولة، تنفيذاً لتعليمات صندوق النقد الدولي بخفض أعداد الموظفين، بات من يخرج على المعاش بلا بديل، فتراكم العمل على الموجودين بالأعباء نفسها، أما زيادات المرتبات فغير متكافئة مع تبعات العمل، ولا تكفي لتغطية الأعباء المعيشة. وحين تعاطفت الحكومة مع عمال التحويلة حصل كل منهم على زيادة ألف جنيه، أي عشرين دولاراً، ليصل أقصى ما يحصل عليه في بعض الأشهر إلى 6500 جنيه.
وجرى إنفاق 225 مليار جنيه خلال عشر سنوات على تطوير السكك الحديدية. وهذه المبالغ الهائلة لم تشمل العمال والموظفين. وبلغ عدد حوادث القطارات التي حصلت بين عامي 2019 و2023 في عهد وزير النقل والصناعة كامل الوزير نحو 4545، وأسفرت عن 1689 وفاة، و2788 مصاب.
وهكذا زادت أعداد الوفيات بنسبة 600% في عهد كامل الوزير، وارتفع متوسطها من أربع إلى 28 شهرياً.
وكلفت خطة كامل الوزير لتطوير السكك الحديدية خزينة الدولة أكثر من 150 مليار جنيه، واستدانت هيئة السكك الحديدية أكثر من 134.3 مليار جنيه.
وفي سجلات الاتهامات المتعلقة بـ"عامل التحويلة، شهدت محافظة البحيرة تصادم قطارين عند محطة أبو الخاوي، ما أسفر عن سبعة قتلى وجرح عشرات. وأحيل على أثرها عامل التحويلة محمد زي (58 عاماً)، إلى النيابة بتهمة الإهمال.
وخلال فترة حكم المجلس العسكري بعد ثورة يناير/ كانون الثاني، اتهم عامل تحويلة بالتسبب في حادث قطار سوهاج الذي اصطدم بسيارة نقل قتِل سائقها.
وفي العادة يُقال وزير النقل إذا حصلت حوادث كبيرة، لكن كامل الوزير لم يشمله ذلك العقاب، علماً أنه كان قد تولى منصبه بعد إقالة سلفه بسبب حادث محطة رمسيس.
وسجلت السينما المصرية تفاصيل الحياة البائسة لعاملي التحويلة الذين تدين المحاكم بعضهم. ومن بين الأفلام الشهيرة "المنسي"، الذي لعب بطولته عادل إمام مجسداً دور المنسي الذي يدل على حاله التي لا تختلف اليوم عن تاريخ إنتاج الفيلم قبل ثلاثة عقود. وعرض الفيلم لبؤس واقع عامل التحويلة في وقت يعتبر دوره مهماً كونه لا يمكن أن يرتكب أي سهو أو خطأ، وإلا ضاعت الأرواح.
وتشبه تفاصيل حياة عامل التحويلة المتهم دائماً حياة حلمي، اسم بطل فيلم "عامل التحويلة"، الذي أنتج بعد فيلم "المنسي" بثلاثة أعوام، وأدى دور البطولة فيه الممثل الراحل نجاح الموجي، الذي يتعرض لظلم فادح من السلطة من أجل التغطية على إهمال وفساد ممثليها من ضباط ومسؤولين، والسبب أنه مجرد "محولجي".
وقد تناولت أعمال فنية أخرى مهنة "المحولجي" التي تجذب انتباه الكتاب والمؤلفين وصناع السينما لقصص من يمارسونها من دون أن يحصلوا على أجور تكافئ متطلبات العمل وخطورته وتبعاته، فراتب من اقترب من سن المعاش لا يتجاوز الحدّ الأدنى للأجور.