في رحلة البحث عن القوت بمحيط الجبال، وقع تونسيون ضحايا ألغام وعبوات يدوية زرعها إرهابيون خلال العقد الأخير من الزمن، ما جعل الحياة أكثر قساوة بالنسبة إليهم، خصوصاً أنهم يعيشون أصلاً في أراضٍ ذات طبيعة وعرة. ويعتبر سكان "دوار" (تجمّع سكني) المثنانية في جبل سلوم بمحافظة القصرين غربي تونس أمثلة حيّة على ضحايا الألغام المنسيين الذين يعانون من إهمال طبي ونفسي.
يقول أحد سكان المثنانية ويدعى سامي الرحيمي لـ"العربي الجديد": "ضحايا الألغام نصف أحياء وأموات، وأولئك الذين قضوا لا يذكرهم أحد. قريتنا إحدى الأكثر تضرراً بالألغام، وسقط أكثر من 6 من أبنائها بانفجارات خلال السنوات القليلة الماضية، وجرح آخرون كثيرون يعانون حالياً من أضرار بدنية ونفسية جسيمة نتيجة بتر أطرافهم، علماً أن تعهد السلطات برعايتهم ينتهي بعد انقضاء الشهرين الأولين من العلاج".
ويتحدّث الرحيمي عن مآسٍ تعشيها أسر فقدت بعض أفرادها بانفجار ألغام، أو خسرت حضورهم الكبير بعدما أصيبوا بإعاقات منعتهم من العمل. ويخبر أن غالبية الأسر في المنطقة الريفية تعيش من الرعي وجمع المزروعات، أو استخراج الفحم وصنعه. وهذه أعمال تتطلب بذل جهد بدني كبير لم يعد الضحايا قادرين على تنفيذه، ما يزيد فقرهم في غياب أي تعويضات أو إعانات اجتماعية".
ويؤكد أن التكفل بتوفير علاج الضحايا اقتصر على الأسابيع الأولى التي تلت الحوادث، رغم أن إصابات عدة احتاجت فعلياً إلى فترات تأهيل طويلة، وتوفير تمويل كبير لتغطية التكاليف، خصوصاً إذا تعلّق الأمر بتركيب أعضاء اصطناعية.
ويشير إلى أن "الضحايا في المثنانية فقراء يعيشون في عوز كبير، ويقاومون من أجل توفير ما يسد الرمق، ولا يملكون القدرة على الحصول على علاج مناسب، والانتقال إلى مراكز العلاج في محافظات صفاقس وسوسة أو تونس العاصمة".
كما ينتقد الرحيمي "إهمال السلطات لضحايا الألغام، رغم أن ذنبهم الوحيد أن الجغرافيا وضعتهم على تخوم جبال استوطنها إرهابيون تواجهوا مباشرة معهم لمدة أكثر من عقد من الزمن". ويؤكد الرحيمي أنّ دعم الجمعيات لهؤلاء الضحايا انقطع، ولم يعد أمامهم إلا العمل ولو بأطراف مبتورة من أجل توفير قوتهم.
ويورد التقرير الذي أصدره "مرصد الألغام الأرضية" التابع للأمم المتحدة عام 2021 أن عدد الضحايا زاد بنسبة 20 في المائة مقارنة بعام 2020 نتيجة تزايد النزاع المسلح ووجود ألغام بدائية الصنع. ويضع التقرير تونس بين مقدمة الدول التي يعاني مواطنوها من التأثيرات السلبية لانتشار الألغام في أراضيها، وبينها أيضاً كل من الكاميرون ومصر والنيجر والفيليبين وتايلاند وفنزويلا. ويورد: "لا يزال المدنيون ضحايا رئيسيين للأسلحة، ويمثلون 8 من كل 10 ضحايا، والأطفال هم نصف عدد القتلى على الأقل، ونصف عدد المشوّهين".
ورغم أنّ الرجال والفتيان يمثلون نسبة 85 في المائة من إجمالي الضحايا، يشير التقرير إلى أنّ النساء والفتيات المصابات هن الأكثر تعرضاً لمصاعب الحصول على المساعدات الخاصة بالضحايا.
ويستحضر الرحيمي حادثة وفاة خيرة وشريفة الهلالي بانفجار لغم في جبل سمامة في 30 مايو/ أيار 2016، ويؤكد أنهما تركتا 11 يتيماً عاد غالبيتهم مكرهين إلى العمل على تخوم الجبال، بينما اضطر الباقون إلى النزوح إلى تونس العاصمة للحصول على عمل في مكبات للنفايات، ومصانع لتدوير البلاستيك. ويقول: "على غرار خيرة وشريفة الهلالي تركت نساء كثيرات عشن في تجمعات سكنية قريبة من الجبال أفراد أسرهن بلا رعاية، أما النساء الناجيات اللواتي خسرن بعض أطرافهن، فتحولت حياتهن إلى جحيم في غياب أي رعاية نفسية تخفف وجعهن، إذ يستمر إقصاءهن من برامج المساعدات الاجتماعية والاقتصادية، ويعشن في فقر شديد، في وقت يفترض أن تتكفل الدولة بمساعدتهن مالياً أو تزويدهن أعضاء اصطناعية بدلاً من تلك المبتورة".
واعتادت المسلحون الموالون لتنظيمي "القاعدة" و"داعش" زرع ألغام ومتفجرات في مسارات جبلية، باستخدام أساليب احترافية لتحقيق نجاحات في استهداف رجال الأمن وجنود الجيش، ومنعهم من اقتحام المخابئ الجبلية التي تمركزوا فيها، خصوصاً في المناطق الجبلية الغربية مثل الشعانبي والسلوم وسمامة.
ويحتم ذلك عيش سكان المناطق الجبلية بين مطرقة المخاطر الإرهابية وسندان الفقر في مناطق تفتقد أدنى مقومات التنمية، ولا تحضر فيها الحكومة إلا من خلال مرافق صحية أو تعليمية قد يحتاج السكان إلى قطع عشرات الكيلومترات لبلوغها.
ويؤكد ناشطون بيئيون أنه طالما ظلت هذه الألغام مزروعة في الجبال، ستظل الحيوانات البرية في مقدمة ضحاياها في المستقبل، وهي تصعّب أيضاً مهمات الاعتناء بالجبال وغاباتها إذا اندلعت حرائق فيها، فالألغام تخيف رجال الإطفاء وحراس الغابات.