صحة لبنان... عمليات جراحية مؤجلة بسبب الدولار

21 يوليو 2022
وقفة لتسليط الضوء على الأزمة الصحية في لبنان (أنور عمرو/ فرانس برس)
+ الخط -

أكثر من مائة مليون ليرة لبنانية باتت قيمة فروقات الفاتورة الاستشفائيّة التي يتكبّدها المريض اللبناني لإجراء عملية جراحية كبيرة، كعمليات القلب المفتوح والجلطة الدماغية والعظام وتركيب الأطراف الصناعية، وهي قيمة تقارب 3,571 دولاراً أميركياً وفق سعر الصرف في السوق السوداء، ونحو 66,667 دولاراً بحسب سعر الصرف الرسمي. مبالغ خياليّة لمجرّد فروقات أصبحت تفوق رواتب اللبنانيّين بأشواط، وسط انهيار العملة الوطنية وعجز وزارة الصحة العامة والصندوق الوطني للضمان الاجتماعي وشركات التأمين الصحي عن تغطية الفروقات بدولار السوق السوداء.
وتراجع عدد العمليات الجراحية في أحد مستشفيات لبنان من مائتي عملية في الشهر الواحد إلى ما يقارب 40 أو 50 عملية بالحد الأقصى، وباتت كأحلام اللبنانيين مؤجّلة إلى أجل غير مسمّى، إذا إن معظمهم يكتفي بالعلاج "بالتي هي أحسن"، ويفضل تأجيل أيّ عمليّة "غير اضطراريّة". ويقصد البعض الطبيب لدى اشتداد حالته وبلوغ المرض مراحل متقدّمة. فالأولويّة للرغيف والوقود والمدارس والتدفئة وغيرها من متطلّبات الحياة، في حين يلجأ ذوو المرضى الذين تُعدّ حالاتهم حرجة إلى الاستغاثة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، معوّلين على دعم الخيّرين والجمعيات والمنظمات.
في هذا السياق، يقول مدير العناية الطبية في وزارة الصحة العامة الدكتور جوزيف الحلو إنّ "معدل العمليات الجراحية تراجع بالفعل في ظلّ الظروف الصعبة التي يعيشها الشعب اللبناني. وبات المريض، سواء كانت تغطيته الصحية من قبل وزارة الصحة أو شركات التأمين أو الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، يحسب ألف حسابٍ قبل توجّهه إلى المستشفى، ويؤجّل ما يمكن تأجيله إلى حين يصبح دخوله إلى المستشفى ضرورياً". ويكشف أنّ "العمليات الجراحيّة تقتصر راهناً على الحالات الطارئة، إثر التعرّض لحوادث تنجم عنها الإصابة بكسورٍ وجروح بليغة، أو التعرّض لأزمات ونوبات قلبيّة".
ويذكّر بأنّ "عقود الجهات الضامنة مع المستشفيات ما زالت تحتسب الكلفة وفق سعر الصرف الرسمي (1500 ليرة لبنانية لكلّ دولار أميركي)". ويسأل: "كيف يمكن تغطية التكاليف؟". ويعطي مثال عملية القلب المفتوح قائلاً: "كنا نتكفّل كوزارة بما قيمته 13 مليون ليرة لبنانية (نحو 448 دولاراً بحسب سعر الصرف في السوق السوداء و8667 دولار بحسب سعر الصرف الرسمي)، بينما لم يعد لهذا المبلغ بالعملة الوطنية أية قيمة. والحال ذاته بالنسبة للضمان الاجتماعي وشركات التأمين، ما أدّى إلى تحمّل المريض فروقاتٍ كبيرة في الفاتورة الاستشفائيّة، مشيراً إلى أنّ "وزير الصحة العامّة في حكومة تصريف الأعمال الدكتور فراس الأبيض كان قد وقّع، أواخر العام الماضي، اتفاقية مع البنك الدولي لدعم التعرفة الاستشفائية لمرضى وزارة الصحة بنسبة ثلاثة أضعاف ونصف التعرفة الرسمية للوزارة في كلّ مستشفيات لبنان الحكومية والخاصّة، لتخفيف حجم الفروقات ولو قليلاً عن كاهل المريض من جهة، ودعم المستشفى من جهةٍ أخرى".

تراجع عدد العمليات
وفي وقت يأمل مدير العناية الطبية "زيادة الموازنات المخصّصة للصناديق الضامنة لتتمكّن من زيادة تغطيتها الفاتورة الاستشفائيّة وتخفيف العبء عن المواطن"، يتحدّث عن الفرق الشاسع في قيمة موازنة وزارة الصحة العامة، والتي ما زالت 475 مليار ليرة لبنانية، إلا أنّ هذا المبلغ كان يوازي نحو 350 مليون دولار أميركي قبل الأزمة المالية، وأصبح اليوم يعادل قرابة 16 مليون دولار وفق سعر الصرف في السوق السوداء". ويأسف لـ"اضطرار عددٍ من المستشفيات إلى إغلاق أقسامٍ حيويّة، بينها أقسام أطفال، والاكتفاء بنحو 60 سريراً من أصل 150 سريراً، ناهيك عن هجرة العديد من الأطباء والممرّضين ورفع الدعم عن غالبية المستلزمات الطبية التي باتت مكلفة جداً".

ويكشف الحلو أنّ "أحد المستشفيات كان يشهد شهريّاً إجراء نحو مائتَي عملية جراحية، بينما اليوم بالكاد يصل العدد إلى 40 أو 50 عملية"، موضحاً أنّ "أكثر العمليات تراجعاً هي تلك غير الاضطراريّة، مثل جراحة العيون وعمليّات الفتاق والمرارة وغيرها على الرغم من مضاعفات تأجيلها، بينما الأكثر كلفة هي عمليات القلب المفتوح والجلطات الدماغية والعظام وتركيب الأطراف الصناعية، والتي تقارب الفروقات فيها 100 مليون ليرة وأكثر" (نحو 3333 دولار بحسب سعر الصرف في السوق السوداء و66 ألف دولار بحسب سعر الصرف الرسمي). ويقول: "هناك جمعيات ومنظمات تغطّي كلفة عمليات بسيطة وصغيرة أو تدفع بعض الفروقات، لكن المطلوب اليوم مساعدة البنك الدولي للقطاع الاستشفائي ككلّ للنهوض من جديد بعدما كنّا مستشفى الشرق".
من جهته، يقول الطبيب المتخصّص في الجراحة العامّة وجراحة الجهاز الهضمي والقولون والمستقيم إلياس سيقلي: "تكمن المشكلة الأكبر في كلفة العمليات الجراحية وسط تدهور العملة الوطنية. بعض المرضى يتعذّبون قبل دخولهم المستشفى، ويبحث معظمهم عن البديل الأرخص. كما أنّنا بدورنا، كأطبّاء، نضطرّ لإجراء الجراحة في مستشفى آخر، كي نخفّف عنهم عبء التكاليف". وإذ يلفت إلى أنّه "لم يلحظ تراجعاً في عدد العمليّات"، يكشف أنّ "المرضى باتوا يقصدون الطبيب في مراحل متأخّرة إلى حدّ لا يُحتمل معه تأجيل أيّ عمليّة أو علاج".

مطالبة بتوفير العلاج لمرضى السرطان (حسام شبارو/ الأناضول)
مطالبة بتوفير العلاج لمرضى السرطان (حسام شبارو/ الأناضول)

بانتظار الفرج
يقول جاد (اسم مستعار) لـ"العربي الجديد" إنه يحتاج إلى عملية استئصال ورم في الغدة تصل كلفتها إلى حدود 15 ألف دولار أميركي في أحد مستشفيات بيروت، عدا عن كلفة الأدوية واحتساب أيام بقائه في المستشفى بعد خضوعه للعملية الجراحية. يضيف: "قبل العملية، طُلب منّي إجراء صورة شعاعية تُستخدم ضمنها مادة طبية مستوردة، فقاسيتُ الأمرّين وانتظرتُ ثلاثة أسابيع حتّى تمكّن أحد المراكز الطبية من توفيرها، وتقاضى ثمنها بالدولار، عدا عن صور شعاعيّة أخرى"، مشيراً إلى "الفرق بالأسعار بين مركزٍ طبي وآخر ومختبرٍ وآخر في ظلّ غياب أيّ رقابة".

أدوية كثيرة لم تعد متوفرة في الصيدليات اللبنانية (حسام شبارو/ الأناضول)
أدوية كثيرة لم تعد متوفرة في الصيدليات اللبنانية (حسام شبارو/ الأناضول)

وإذ يتذكر نصيحة أحدهم بإجراء العملية خارج البلاد، يعرب عن قلقه من "حصول أيّ طارئ خلال العملية وبعدها، قد يتطلّب مستلزمات ومعدات ومواد طبية وأدوية مفقودة في لبنان". ويلفت إلى أنّ حالته تستدعي زرعاً مباشراً خلال العملية، وهذا غير موجود في معظم مستشفيات لبنان، وإن وُجد فكلفته مرتفعة جداً".
أمّا محمد الذي خضع لعملية انزلاق غضروفي في الظهر (ديسك)"، وتكبّد ما قيمته 16 مليون ليرة لبنانية (نحو 533 دولاراً بحسب سعر الصرف في السوق السوداء ونحو 10666 دولار بحسب سعر الصرف الرسمي)، كفروقاتٍ عن تغطية الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي والتأمين الصحي، فقد فوجئ بمبالغ إضافيّة لم تكن بالحسبان وصلت إلى حدود 10 ملايين ليرة لبنانية (نحو 333 دولاراً بحسب سعر الصرف في السوق السوداء ونحو 6666 دولار بحسب سعر الصرف الرسمي)، ناهيك عن دفع جزءٍ من التكاليف بالدولار الأميركي (2500 دولار أميركي). إلا أنّ إصابته بفيروس التقطه داخل المستشفى أدّى إلى تدهور حالته الصحية والتهاباتٍ حادّة وآلامٍ يوميّة، استغرق علاجها شهراً ونصف الشهر، وتحمّل معها تكاليف باهظة. 

أما أم أحمد، التي تنتظر الفرج كي تخضع لعمليّة مياه زرقاء في العين، تعرب عن استيائها من "الوضع الصعب والمزري". وتقول لـ"العربي الجديد": "الدولار اليوم موجع والطبابة باتت مكلفة جداً. أقل معاينة طبيّة صارت نحو 800 ألف ليرة لبنانية (نحو 26 دولاراً بحسب سعر الصرف في السوق السوداء و533 دولاراً بحسب سعر الصرف الرسمي)، بعدما كانت نحو 200 ألف ليرة (نحو 7 دولارات بحسب سعر الصرف في السوق الموازية و133 دولاراً بحسب سعر الصرف الرسمي). كما أنّ كلفة عدسة العين المطلوبة للعملية الجراحية المذكورة تصل إلى نحو 300 دولار أميركي، ناهيك عن كلفة الصور الشعاعية وتخطيط القلب والفحوصات على أنواعها". أم أحمد، وهي أرملة وأم لأربعة أولاد، أرجأت عمليّتها من جراء الظروف الاقتصادية وانتشار جائحة كورونا. وتقول بحسرة: "ليتني لم أؤجّلها، فقد ارتفعت كلفتها بشكلٍ كبيرٍ، وساءت حالتي أكثر"، مضيفةً: "لم يعد هناك أيّ قيمة للإنسان في لبنان، فمن لا يملك المال أو الدولار يموت قهراً من دون أيّ علاجٍ يُذكر".
وتتوالي في لبنان نداءات الاستغاثة عبر وسائل التواصل الاجتماعي لمساندة المرضى الذين هم بحاجةٍ ملحّة لإجراء عمليّة جراحية، أو لتغطية أتعاب طبيب فضّل اقتطاع حصّته بشكل مباشرٍ من المريض، وبالدولار الأميركي في معظم الأحيان".  

المساهمون