منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا في نهاية الشتاء الماضي، تتعرض الكنيسة الأرثوذكسية لضغوط غير مسبوقة وصلت إلى حد إجراء أفراد الأجهزة الأمنية مداهمات لمبانيها، واتهام القساوسة بالخيانة العظمى، أو بالعمل لصالح روسيا، لتتزايد المخاوف من أن تتم تصفية الكنيسة في نهاية المطاف.
تعود قصة انقسام الكنيسة الأوكرانية إلى عام 2018، حين أسس الرئيس الأوكراني آنذاك، بيترو بوروشينكو، ما أطلق عليه اسم "كنيسة أوكرانيا الأرثوذكسية" بدعم من بطريركية القسطنطينية، ومن دون أن يؤثر هذا الانشقاق على استمرار نشاط الكنيسة تحت قيادة المطران أونوفريوس.
إلا أن الحرب المشتعلة زادت من حالة الاستقطاب في داخل المجتمع الأوكراني، بالتزامن مع تشدد مواقف المحيطين بالرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، مما دفع الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية إلى اتخاذ إجراءات عدة لتأمين نفسها، بما فيها التخلي عن ذكر بطريركية موسكو في وثائقها الأساسية، وتوقف المطران أونوفريوس عن المشاركة في اجتماعات مجمع الكنيسة الأرثوذكسية الروسية، ثم الانسحاب منه لاحقاً لاستبعاد احتمال اتهامه بالخيانة العظمى.
رغم كل ذلك، لم تحل هذه الإجراءات الاحترازية دون تعرض الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية لتضييق غير مسبوق، وفي 22 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، داهم جهاز الأمن الأوكراني دير "كييفو بيتشورسكايا لافرا"، والذي يعد أشهر المعالم المسيحية في كييف، بذريعة "منع استخدام الدير كخلية للعالم الروسي".
وأصدر الرئيس زيلينسكي عبر مجلس الأمن القومي ووزارة الدفاع الأوكرانية توجيهات للحكومة بإجراء مراجعة حول ما إذا كانت الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية قد قطعت صلاتها مع بطريركية موسكو بشكل كامل، بينما أحيل إلى "الرادا"، وهو البرلمان الأوكراني، مشروع قانون لحظر المنظمات الدينية التي تقع مقار إداراتها في الخارج، ما يمهد الأرض لمنع نشاط الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية بشكل كامل.
داهمت الأجهزة الأمنية الأوكرانية مباني الكنيسة واتهم القساوسة بالخيانة العظمى
يعتبر كبير الباحثين في قسم الدراسات الاجتماعية والسياسية بمعهد أوروبا التابع لأكاديمية العلوم الروسية، رومان لونكين، أن التضييق على الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية له دوافع سياسية بحتة، محذراً من أن تزيد التصفية المرتقبة للكنيسة من الانقسامات في العالم الأرثوذكسي.
ويقول عالم الأديان لونكين في حديث مع "العربي الجديد": "ما يجري حول الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية له طابع سياسي. في ظروف النزاع القائم، تكونت في كييف دكتاتورية عسكرية تبحث عن الأعداء بنشاط"، مرجعاً التضييق على الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية إلى سببين رئيسيين: "أولا، هذه الكنيسة لها صلة تاريخية ببطريركية موسكو رغم أن مجمعها شطب أي ذكر للكنيسة الأرثوذكسية الروسية من وثائقها في مايو/أيار الماضي. ثانيا، تمثل الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية بشكل أساسي المؤمنين من شرق أوكرانيا ممن لا يتبنون مواقف معادية لروسيا، وهم يشككون في سياسات زيلينسكي، كونهم الطرف الأكثر تضررا من الحرب، على عكس غالبية الأوكرانيين في مناطق الغرب".
ويلفت إلى أن القوميين والكاثوليك اليونانيين، وأنصار كنيسة أوكرانيا الأرثوذكسية هم الذين يطالبون بتصفية الكنيسة، ومصادرة أبرشياتها وأملاكها. ويحذر من مخاطر تصفية الكنيسة على العالم الأرثوذكسي، قائلا: "لن تقبل الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية بعد تصفيتها إجرائياً بإنهاء وجودها، والخضوع لمكتب زيلينسكي، لكنها أيضاً لن تعود إلى الخضوع للكنيسة الأرثوذكسية الروسية، لأن قياداتها هم أوكرانيون وطنيون".
ويقر لونكين بأن "الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية تصرفت بحكمة حين نأت بنفسها عن بطريركية موسكو. في الربيع الماضي، بدأت السلطات الأوكرانية فعلياً لعبة الكر والفر مع الكنيسة. إلا أن المطران أونوفريوس رد على الاتهامات بعقد مجمع محلي في 27 مايو/أيار، واتخذ خلاله قرارا حكيما بعدم الانسحاب من الكنيسة الأرثوذكسية الروسية من جانب، مع شطب ذكرها من النظام الأساسي من جانب آخر".
وأحدثت الحرب انقسامات كبيرة داخل الكنيسة الأوكرانية، إذ يريد بعض الكهنة البقاء تحت التبعية لبطريرك موسكو وسائر روسيا، البطريرك كيريل، في حين يعارض آخرون ذلك، وبحلول منتصف مارس/آذار الماضي، كفت أكثر من 15 أبرشية أوكرانية عن ذكر اسم البطريرك كيريل.
وأثار ابتعاد الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية حفيظة بطريركية موسكو، والتي وصفت الوضع بأنه "يؤدي إلى انشقاق"، كما قررت الكنيسة الروسية إخضاع أبرشيات شبه جزيرة القرم الثلاث لاختصاصها بعد أن ظلت خاضعة للكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية، على الرغم من ضم شبه الجزيرة إلى روسيا منذ عام 2014.
وبعد يوم واحد من تعرض "كييفو بيتشورسكايا لافرا" للمداهمة، قررت الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية تحضير الزيت العطري "الميرون" المستخدم في الطقوس الدينية في كييف، والتوقف عن تلقيه من موسكو مثلما جرى الأمر منذ عام 1917، مذكرة بأن تحضير هذا الزيت هو "حق للكنيسة المستقلة".