تعم تكبيرات العيد الزنازين ويتردد صداها في الممرات عبر فتحة التهوية الصغيرة المعروفة في لغة السجون المصرية باسم "النظارة"، ينادي المعتقل على الأصدقاء في بقية الغرف قائلا: "كل عام وأنت بخير يا فلان، وإن شاء الله العيد القادم تكون حرًا بين أفراد أسرتك، وربنا ينتقم من الظالم".
قضيت أربعة أعياد فطر في سجون مصر، من 2018 إلى 2021، كما قضيت ثلاثة أعياد أضحى، وأفرج عني قبل يومين من الأضحى الرابع. كانت الجملة العالقة في ذهني دائماً للتعبير عن فترة الأعياد داخل المعتقلات هي "الفَرَج بين العيدين"، والمقصود منها أن الحرية قد تأتي في الفترة القصيرة التي تفصل بين عيد الفطر وعيد الأضحى. يكرر غالبية المعتقلين هذه الجملة عن قناعة رغبة منهم في تهوين وطأة السجن، وبث الأمل الذي يدفعهم لمقاومة ظلم السجان.
في فترات لاحقة، عندما امتلأت المعتقلات وازدحمت الزنازين وامتدت فترات الحبس الاحتياطي، وتوسعت السلطات في القبض على المواطنين، تطور شعار الأمل الذي تبناه المعتقلون، فكنا نقول إن لم يأتِ الإفراج في الفترة الزمنية القصيرة بين العيدين، فسيأتي خلال الفترة الأطول التي تفصل بين عيد الأضحى وعيد الفطر، لتتواصل الدائرة السنوية من الأمل.
ليس العامل الديني وحده الذي يكرّس فكرة "الفَرَج بين العيدين"، وإنما أيضاً الأداء الأمني للسلطة التي اعتادت الإفراج عن عدد من السجناء الذين صدرت بحقهم أحكام قضائية في كل مناسبة، وعلى رأسها الأعياد والمناسبات الوطنية. رسخ هذا السلوك في عقول السجناء ارتباطاً شرطياً بين الأعياد وأمل الإفراج عنهم، على الرغم من حقيقة أن أسماء السجناء الذين تضمهم قوائم العفو الرئاسي في المعتاد لا تضم من لهم صلة بالنشاط السياسي، وإنما السجناء الجنائيين، وغالباً ما يكون العفو بشروط، مثل انقضاء نصف المدة مع حسن السيرة والسلوك خلال فترة السجن، أو الإفراج عن بعض رجال الأعمال الذين تجمعهم مصالح اقتصادية مع السلطة، وبالتالي يبقى السجناء السياسيون عادة خارج هذه الفرصة، وخصوصاً أن أغلبهم محبوسون احتياطياً ولم تصدر بحقهم أحكام قضائية، فلا تنطبق عليهم شروط العفو الرئاسي.
بعد تكرار تجاهلهم، يتحول انطباع السجناء السياسيين عن العفو الرئاسي في الأعياد من الأمل، ولو بنسبة ضئيلة في أن يشملهم، إلى لامبالاة، وأحياناً غيظ، إذ أصبحت قناعة قطاع عريض منهم أن الأمن يُفرج عن الجنائيين من أجل إخلاء السجون لتوفير أماكن لمعتقلين سياسيين محتملين، وبالتالي يتحول كل عفو رئاسي إلى نذير شؤم.
في إبريل/ نيسان 2022، قرر الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إعادة تفعيل لجنة العفو الرئاسي خلال حفل إفطار الأسرة المصرية، لكن لم يتم العفو سوى عن بضعة نشطاء معدودين، من بينهم الصحافيان حسام مؤنس وهشام فؤاد، والبرلماني السابق زياد العليمي، والباحث أحمد سمير سنطاوي، وفي السياق باتت الآلية المعتمدة للإفراج عن المعتقلين، بدلًا من جلسات محاكمة عادلة، هي القوائم التي يُعلن عنها من حين لآخر، وتضم كل قائمة ثلاثين أو أربعين معتقلًا، ورغم أن تلك القوائم تصدر بالأساس من مكتب النائب العام بحق محبوسين احتياطياً، إلا أنه يتم الترويج لها إعلامياً باعتبار أنها "عفو رئاسي"، في حين أنه ليس من صلاحيات الرئيس العفو عن المحبوسين احتياطياً.
ويصدر النائب العام تلك القرارات على الأرجح بعد تنسيق مسبق مع الأجهزة الأمنية، وغالباً ما يتم إعلانها بالتزامن مع الأعياد والمناسبات، وآخرها القائمة التي ضمت أربعين اسماً، من بينهم الصحافي في شبكة الجزيرة هشام عبد العزيز، ويأمل المعتقلون أن تضم القائمة القادمة أسماءهم، وأن يشملهم العفو، وأن يأتيهم الفَرَج في الأعياد.
يحاول السجناء خلال الأعياد إضفاء جو من البهجة عبر الهدايا والتهاني
تعد فترات الأعياد في السجون من أكثر الأوقات التي لها خصوصيتها وظروفها مقارنة مع بقية الأيام، وتتأرجح خلالها نفسية السجين بين الأمل والاكتئاب، وبين الحزن والغضب بسبب البُعد عن الأسرة، والسعادة بالمناسبة والأمل في الحرية.
يحاول السجناء قدر استطاعتهم إضفاء جو من البهجة عبر المباركات، والأحاديث العابرة للغرف، وتتكرر أمنيات كل سجين لزميله بالفرج القريب، وأن يحل العيد القادم وهو بين أفراد أسرته، وتحاول كل مجموعة تتشارك زنزانة واحدة إضفاء أجواء مقاربة للأعياد، فيغسل أفرادها ملابسهم، ويحلقون لحاهم أو يشذبونها، ويتشاركون التكبيرات والصلاة والهدايا البسيطة، إن وجدت، ويمكن أن تكون الهدايا كعكا وصل إلى أحدهم خلال زيارة لأحد السجناء، أو بسكويتا وعصيرا يشترونه من (كانتين) السجن.
لكن قد تشهد الزنازين مشاحنات أو مشادات كلامية تتطور أحياناً إلى شتائم أو اشتباك بالأيدي، فالبعض يفقدون أعصابهم نتيجة عدم تحمل الأعياد المتتالية عليهم في السجن، فينفثون غضبهم تجاه زملائهم، في أغلب الحالات يكون الجميع متفهمين الضغوط. ويستقبل بعض السجناء الأعياد بالحزن والتأثر وتذكر الماضي الذي يستعيدونه وهم جالسون في الظلام على أرض الزنزانة في ليلة العيد، يذرف بعضهم الدموع أحياناً، ويحاول إخفاءها في أحيان أخرى عن زملائه كي لا تتأثر نفسيتهم. عادة ما تكون ليلة العيد من أكثر الليالي حزناً واكتئاباً.
هناك بُعد آخر للأعياد في السجون يتعلق بالإجراءات الأمنية المشددة التي تتخذها إدارة كل سجن، كون فترات الأعياد تشهد كثيراً من الإجازات، وبالتالي لا تكون قوة تأمين السجن مكتملة، وبسبب هذا الوضع الاستثنائي، لا يُسمح للأهالي بالزيارة في أيام الإجازات، باستثناء الأعياد، حيث يُسمح فيها بزيارة استثنائية بداية من اليوم الثاني.
ويبلغ كثير من السجناء أهلهم بتأجيل الزيارة إلى ما بعد العيد، حتى لا يفسدوا عليهم الفرحة، لكن غالبية الأهالي يصرون على زيارة ذويهم في العيد، وتكون الزيارة قصيرة، وأحياناً تسمح إدارة السجن بدخول بعض المتعلقات الشخصية البسيطة التي لطالما منعتها، مثل مروحة صغيرة، أو جهاز راديو، أو ملابس، أو بطانية، وأيضاً بعض أنواع الأطعمة.
في العيد، يتخذ رئيس المباحث قراراً بإلغاء عقوبة التأديب لكل السجناء المودعين في غرف التأديب، ليعودوا إلى غرفهم، حتى لو لم يكملوا عقوبتهم. وغرف التأديب هي غرف انفرادية ضيقة ليس فيها شبابيك للتهوية، وليس بداخلها دورة مياه، ولا بطاطين، ويمنع فيها السجين من حقوق التريض والتهوية والنظافة الشخصية والتغذية الجيدة، وفي أحيان كثيرة يودع السجناء في غرف التأديب من دون أسباب مفهومة، وأحياناً لمجرد رغبة شخصية من الضابط أو فرد الأمن في التنكيل بمسجون معين، ربما بسبب مطالبته بأحد حقوقه.
الرعاية الصحية شبه منعدمة في سجون مصر خلال الأعياد لأن الأطباء إجازة
من ضمن الإجراءات الأمنية المشددة التي تُتخذ خلال الأعياد، منع السجناء من التريض، فيُحرم السجين من الدقائق القليلة المسموح له فيها بالخروج من الزنزانة لتحريك جسده في الممرات الضيقة، أو في المساحة المسموح بها بالتريض، فتكون الأعياد شؤماً على السجناء لأنها تزيد وحشتهم، بينما يخرج الأشخاص العاديون إلى الشوارع والمتنزهات، ويتبادلون الزيارات العائلية احتفالًا بالعيد، وأحياناً تمتد هذه الفترة لأكثر من أسبوع إذا كانت أيام العيد تسبقها أو تليها الإجازة الأسبوعية، ففي أحد الأعياد يستمر غلق الزنازين ومنع التريض لمدة 9 أيام متتالية.
والرعاية الصحية في أيام الأعياد شبه منعدمة، لأن الضباط الأطباء يقضون الأعياد مع أسرهم، وفي بعض الأحيان لا يوجد طبيب في السجن، وبالتالي يكون التجاوب مع استغاثات المرضى أكثر بطئًا من المعتاد، فليس من السهل السماح بخروج سجين لتلقي الرعاية الطبية في عيادة السجن، لأن فتح الزنزانة لا يتم إلا بإذن من رئيس المباحث، أو أحد معاونيه، وهؤلاء عادة لا يكونون موجودين في العيد، فضلًا عن غياب الطبيب، وفي كثير من المرات، تضطر إدارة السجن إلى استدعاء طبيب من سجن قريب لعلاج حالة طارئة، أما أغلب الحالات التي يرون أنها لا تستوجب الطوارئ فيتم التعامل معها من خلال الحبوب المسكنة والمضادات الحيوية، وفي بعض المرات لا تتم الاستجابة من الأساس.
بعد إجازة أحد الأعياد، قابل أحد المعتقلين أحد ضباط المباحث في أثناء زيارة أهله، ولاحظ لفحة الشمس ظاهرة على بشرته، فظن أنه كان يتلقى دورة تدريبية. سأله عن ذلك، فأخبره بأنه كان يقضي إجازته في الساحل الشمالي. لقد أغلق على المعتقلين الزنازين ومنعهم من التريض، وذهب لقضاء العيد في الساحل.