استمع إلى الملخص
- تحولت الشطرنج إلى ساحة منافسة جيوسياسية خلال الحرب الباردة، مع مباريات شهيرة تحمل أبعادًا سياسية وثقافية، تجسد الصراع بين الشرق والغرب.
- غاري كاسباروف، أبرز أبطال الشطرنج السوفييت، تحول إلى معارض بارز للكرملين بعد اعتزاله، مما يعكس التداخل بين الرياضة والسياسة وتأثيرهما المتبادل.
قدّم الاتحاد السوفييتي (1922- 1991) للعالم سبعة من أصل ثمانية أبطال في لعبة الشطرنج في النصف الثاني من القرن العشرين، هم ميخائيل بوتفينيك وفاسيلي سميسلوف وميخائيل تال وتيغران بيتروسيان وبوريس سباسكي وأناتولي كاربوف وغاري كاسباروف.
لكن مسيرة الشطرنج السوفييتية لم تخل من محطات اختلطت فيها اللعبة الرياضية باللعبة السياسة، من بين تلك المراحل فترة سطوع النجم الأميركي روبرت فيشر، وتتويجه بلقب بطل العالم لفترة قصيرة في مطلع السبعينيات، مروراً بتنافس أناتولي كاربوف مع لاعب الشطرنج السوفييتي "المنشق" فيكتور كورتشنوي، وصولاً إلى الصراع بين الماضي السوفييتي وما أطلق عليه الإصلاحات خلال مواجهة كاربوف وكاسباروف.
ويعتبر مدير المتحف التابع للاتحاد الروسي للشطرنج، دميتري أولينيكوف، أن الريادة السوفييتية في لعبة الشطرنج كانت ناجمة عن الدعم الحكومي الهائل المقدم لهذه الرياضة، انطلاقاً من شعار "الجماهيرية تولد الاحترافية"، مقراً بأن اللعبة تجاوزت بمراحل كثيرة نطاق الرقعة.
يقول أولينيكوف الذي يحمل درجة الدكتوراه في التاريخ، لـ"العربي الجديد": "كان الاتحاد السوفييتي هو أول بلد قدّم دعماً حكومياً كاملاً للشطرنج على مستوى هرم السلطة التنفيذية. نتيجة لذلك، ارتفع عدد لاعبي الشطرنج في البلاد بحلول بداية عهد ميخائيل بوتفينيك (1911- 1995)، إلى أكثر من مليون، بفارق قدره عدة أضعاف مقارنة مع بقية بلدان الاتحاد الدولي للشطرنج (فيدي)".
ويلفت إلى أن "اللاعبين السوفييت لم ينخرطوا في البطولات الدولية للشطرنج إلا بعد الحرب العالمية الثانية (1939- 1945)، وظلت مشاركتهم قبلها في البطولات الدولية نادرة، حتى تخلى الاتحاد السوفييتي عن السياسات الانعزالية في مجال الرياضة عام 1947، وتلا ذلك انضمامه إلى الاتحاد الدولي، ثم مشاركة لاعبيه في البطولات".
وبموازاة احتدام "الحرب الباردة" والتنافس السوفييتي الأميركي في شتى المجالات، بما فيها الرياضة، سرعان ما تحولت رقعة الشطرنج إلى إحدى ساحات المواجهة، لا سيما بعد انتزاع الأميركي بوبي فيشر (1943- 2008)، لقب بطل العالم من السوفييتي بوريس سباسكي (87 سنة)، عام 1972. لكن تتويج فيشر لم يكتب له أن يدوم طويلاً، إذ أصبح اللاعب السوفييتي الشاب حينها، أناتولي كاربوف (71 سنة)، بطل العالم الـ12 للشطرنج في عام 1975، بعد رفض فيشر خوض المباراة إثر رفض الاتحاد الدولي للشطرنج طلباته المتعلقة بتعديل بعض القواعد.
بعد تلك الواقعة، انعزل فيشر لمدة 17 عاماً، ثم ظهر عام 1992 ليلعب مباراة غير رسمية ضد بوريس سباسكي في يوغوسلافيا، وحينها حذرته الولايات المتحدة من مغبة خوض المباراة بسبب العقوبات التي كانت مفروضة على هذا البلد، لكن فيشر أصر على خوض المباراة. على إثر ذلك صدرت مذكرة اعتقال بحقه، فعاش يتنقل بين بلدان، من بينها المجر وألمانيا والفيليبين واليابان، وصدر عنه خلال هذه الفترة العديد من التصريحات المعادية لأميركا وإسرائيل، ثم أُلقي القبض عليه في اليابان في 2004، أثناء محاولته الذهاب إلى الفيليبين بجواز سفر مزور، وسُجن لثمانية أشهر، وعندما سعت السلطات اليابانية لترحيلهِ إلى الولايات المتحدة، ضغط معجبوه على البرلمان الأيسلندي لمنحه الجنسية، فسلمته اليابان إلى أيسلندا التي لم يغادرها حتى وفاته في 2008.
وحول الأبعاد الجيوسياسية لمباريات الشطرنج في تلك الفترة، يقول أولينيكوف: "كانت الخلفية السياسية أكثر وضوحاً في المباراة بين سباسكي وفيشر، أما مباراة كاربوف وفيشر التي لم تتم، فهيمن عليها فقدان فيشر اتزانه، وتوقفه عن المشاركة في بطولات الشطرنج، ووضعه شروطاً تعجيزية لإجراء المباراة مع كاربوف وعزوف الولايات المتحدة عن تحفيزه".
وفي عام 1978، خيمت أجواء "الحرب الباردة" على المباراة بين كاربوف ولاعب الشطرنج السوفييتي المنشق، فيكتور كورتشنوي (1931- 2016)، في مدينة باغويو الفيليبينية، والتي تابعها الاتحاد السوفييتي قيادة وشعباً، كاتماً أنفاسه. وقد تمكن كاربوف من الفوز في الدور الحاسم من المباراة التي دامت ثلاثة أشهر كاملة، ليحافظ على لقبه بالحصول على ست نقاط مقابل خمس لكورتشنوي الذي ولد في سانت بطرسبرغ، لكنه عاش في سويسرا لسنوات عديدة، وأصبح مواطناً سويسرياً، ولفظ أنفاسه عن عمر ناهز 85 سنة هناك.
ويعلق أولينيكوف على المغزى السياسي لهذه المواجهة، قائلاً: "أصبح كورتشنوي راية غربية على رقعة الشطرنج على هامش (الحرب الباردة)، باعتباره منشقاً تحدى النظام، بينما كان الاتحاد السوفييتي ينظر إلى كاربوف على أنه مواطن يدين بالولاء لبلده، ويدافع عن شرفه في مواجهة الخائن الذي فر إلى الغرب، والذي يتقاضى أموالاً طائلة في مقابل التشهير بوطنه الأم ولاعبيه".
فاز كاربوف في مباراة أخرى مع كورتشنوي في عام 1981، قبل أن يخسر لقبه أمام غاري كاسباروف (61 سنة) في عام 1985، وسط هيمنة السياسة الداخلية هذه المرة على المباراة. فحينها، جسد كاسباروف زمن التغيير وبرنامج الإصلاحات "بيريسترويكا" تحت قيادة آخر زعماء الاتحاد السوفييتي، ميخائيل غورباتوشف، في السنوات الأخيرة من عمر الدولة السوفييتية.
ويقلل أولينيكوف من أهمية هذه المواجهة، موضحاً: "جسدت هذه المباراة صراعاً بين كاربوف المدعوم من أجهزة السلطة المركزية، وكاسباروف المولود في مدينة باكو، والذي حظي برعاية جمهورية أذربيجان ورئيسها آنذاك، حيدر علييف، وأحدث صراع الأحزاب انقساماً في قطاع الشطرنج السوفييتي، إذ سعى كاسباروف وأنصاره إلى إنشاء منظمة بديلة لاتحاد الشطرنج السوفييتي بهدف التحكم في (سوق) احتراف الشطرنج".
وبينما كان كاسباروف أصغر لاعب في التاريخ يصبح بطل العالم في الشطرنج عن عمر لم يتجاوز 22 سنة، فمن اللافت أنه بعد إنهاء مسيرته كلاعب في عام 2005، توجه نحو العمل السياسي، ليتحول إلى واحد من أشرس معارضي الكرملين في داخل البلاد أولاً، ثم في المنفى في نيويورك بعد مغادرته روسيا في عام 2013. وفي مارس/ آذار الماضي، أدرجت هيئة الرقابة المالية الروسية اسم كاسباروف على قائمة "التطرف والإرهاب"، وذلك بعد أقل من عامين على تصنيفه "عميلاً للخارج" من قبل وزارة العدل الروسية.