رحلة فلوكة نيلية لنسيان أوضاع القاهرة المزرية

24 يناير 2023
ليست كلفة النزهة النيلية متاحة لغالبية المصريين (Getty)
+ الخط -

الساعة بعد العاشرة من مساء الخميس بقليل. تقف فاطمة بثبات على حافة الحاجز المؤدي إلى أحد القوارب الثلاثة التي تمتلكها في نهر النيل. تتحدث مع إحدى قريباتها التي يلعب أطفالها على الجدار الحجري الصغير. على الرصيف، يوجد على متن فلوكة متوقفة عشرات الأشخاص؛ معظمهم جالسون على مقاعد محيطة بأطراف القارب. تشير فاطمة للمتأخرين إلى أن القارب لم يغادر بعد. أن يكون هناك تأخير لمدة ساعة ليس أمراً استثنائياً في العادة.
يختار بعض سكان القاهرة قضاء عطلة نهاية الأسبوع في رحلة على فلوكة، ولكن ليست أية فلوكة. لا يتعلق الأمر بأحد المراكب الشراعية المتوسطية التقليدية التي تساهم في سحر الاكتشاف النهري لصعيد مصر، بل بقارب ذي محرك صاخب تصل سعته إلى مائة وعشرين شخصاً، وتمتزج فيه رائحة المازوت مع الارتجاج الذي يثير مخاوف الانقلاب مع كل موجة.
عند الانطلاق من حي الزمالك، إحدى أرقى مناطق القاهرة، يتم حجز الفلوكة من قبل المجموعة قصد استيعاب عدد كبير من الأشخاص. عادة ما يتكفل "ممدوح" بالأمر، بمزاجه المرح وشهيته للاحتفال؛ فهو "يجد في هذه الأمسيات جو لهو نادراً ما يتوفر". فضلاً عن تلقي عمولة محتملة، مما يعزز من مكانته الاجتماعية، ويعطيه دوراً محورياً في المجموعة.
يتم نشر المعلومة عبر الشبكات الاجتماعية من أجل لقاء بين الأصدقاء؛ فعلى الرغم من أن الأشخاص المعتادين يشكلون غالبية المحتفلين، تبقى الفلوكة أحد الأماكن الليلية النادرة حيث لا يزال التقاء الطبقات والأنماط ممكناً. تكلفتها 300 جنيه مصري في الساعة (10 دولارات تقريباً). ليس المبلغ في متناول الجميع، لكنه ميسور لقطاع من الشباب المصري. هي على كل حال أقل كلفة من البواخر التي تستقبل زبائن أثرياء؛ وأرخص من ملاهٍ عفا عليها الزمن في وسط البلد، أو في شارع الهرم، والتي يختلط فيها الأثرياء المصريون الجدد مع سياح خليجيون.

تظل الفلوكة أحد الأماكن النادرة حيث لا يزال التقاء الطبقات والأنماط ممكناً

بغض النظر عن المال، وحتى الانتقاء المفروض عند مدخل العديد من الحانات والنوادي الليلية، فإن العنف الرمزي يثني شباب الأحياء الشعبية عن ارتياد هذه الأماكن، خاصة ما يقع منها في الأحياء الميسورة بالعاصمة، مثل المعادي، والزمالك أو "حي التجمع" في مدينة نصر، كأن ارتياد هذه المناطق الجغرافية غير متاح للجميع، أو أن غالبية السكان يخضعون لحالة حرمان من الوصول إلى بعض مناطق المدينة.
وتزيد من حدة ذلك قلة الأماكن العامة، لا سيما أماكن التنزه والملاعب، وخصخصة ضفاف النيل، فضلاً عن حركة السيارات الكثيفة.

إقبال المصريين على النزهة النيلية متباين (Getty)
إقبال المصريين على النزهة النيلية متباين (Getty)

في المقابل، لا يجد الشباب المعدم خياراً سوى المكوث في البيت، أو ارتياد المقاهي، ويفضل أن تكون مقاهي حيه، للتحدث عن شعوره بالسجن الذي يغذيه الانطباع الرائج بأنه أسير المقاييس القائمة في الدولة، والمجتمع، والأسرة، وصاحب العمل إن وجد، وجزيئات الأوكسجين الملوثة.
حتى حفلات الزفاف الشعبية التي كانت تقام في الشارع، وتسمح باسترجاع مجال الحي بشكل احتفالي، خصوصاً من خلال الرقص، بما في ذلك التحطيب، صارت أقل. لهذا، فإن توفر أمسيات الفلوكة يعد حرفياً هروباً ليس إلى قلب القاهرة فقط، بل إلى وسط النيل على الخصوص.
يوفر الطابع النهري لهذه الساعات نكهة الخروج عن السياق في بلد يخضع لنظام سياسي أشد فتكاً بالحريات من سابقه. يشير تأرجح الأمواج وحده إلى تقلب العالم، ويتعلق الأمر خلال السهرة، بإحداث انقلاب في الحياة اليومية، فعلى متن الفلوكة تنقلب القيم والأعراف السائدة.

تأثرت سمعة القاهرة كمدينة لا تنام ليلاً لكن مراقبة الحشود صارت أسهل

بعيدًا عن الميول الكحولية، والضرب المحتمل في التغاير الجنسي المنمط، تسمح خيارات الغناء والرقص للجميع بتعاطي هامش صغير من الحرية، حميمي وجماعي في نفس الوقت، و"المهرجانات" كنمط من أغاني الشَكْوى الشعبية التي أضيفت إليها إيقاعات إلكترونية، تساهم في النشوة الجماعية، وتحفيز الأجواء خلال سهرة واحدة.
هذه النغمات المعروفة من الجميع تتجاوز الاختلافات، وتطلق الغضب الداخلي للحضور. لكنها مع ذلك، تذكر الجميع بأوضاعهم. يتعلق الأمر هنا، مرة أخرى، بالمضي في عكس الاتجاه؛ فالغاية ليست في تحمل هذه الأصوات، كما هو الحال في معظم الأماكن في القاهرة، من التوك توك إلى صالونات الحلاقة مرورا بالمطاعم الشعبية، بل ترويضها بالرقص، وإضفاء حيوية اجتماعية.
كما هو الحال في أنحاء العالم، سمحت القيود المتعلقة بالإدارة الصحية لأزمة كوفيد 19 للسلطات المصرية بتقييد أكبر للحياة الليلية، والتي يُنظر إليها على أنها مصدر للاضطرابات، وبشكل عام، صدرت الأوامر لجميع أماكن استقبال الجمهور بإغلاق أبوابها في ساعة مبكرة من الليل. تأثرت سمعة المدينة التي لا تنام ليلاً بينما صارت المراقبة الشديدة للحشود أسهل.

عند منتصف الليل تقريباً، الحفل على الفلوكة في أوجه. يرقص على متنها نحو ستين شخصاً على أنغام المهرجانات الأكثر رواجاً. تقترب دورية للشرطة النهرية من القارب. تطفأ الأضواء بسرعة، وتختفي المشروبات الكحولية وأصناف المخدرات بنفس الوتيرة. سيغادر أفراد الأمن بعد نحو عشر دقائق؛ هدفهم الرئيسي، فضلاً عن أخذ الرشوة، هو تذكير مالك القارب والمنظمين بأن السلطات الأمنية لا تزال ساهرة، وبالتالي، فإن النيل ليس مجالاً خارجاً عن السيطرة.
بعد انتصاف الليل، تمر الفلوكة من تحت جسر إمبابة، وهو كتلَة زرقاء مهيبة من الصلب والرصاص، مع تعريشته البارزة التي تنتمي إلى بداية القرن الماضي. لحظة المرور تحت الجسر، يتحرك الحشد محاولاً إطلاق صرخة موحدة. إنه فاصل يجعله النسيم اللطيف المدعوم بانبساط النهر، أكثر متعة للأجسام التي تتحرك بخفة.
تتوقف الفلوكة أمام "فيرمونت نايل سيتي"، أحد أفخم فنادق العاصمة. لا يزيد الحشد طاقته للتهكم على الأثرياء في بروجهم المتغطرسة، لكنهم يظلون غير مبالين بالفروق المالية، كما لو كانوا يريدون التأكيد على أن الفلوكة مكان بعيد عن الشاطئ، أو خارج الأرض، وبعيدة عن عنف القاهرة الاجتماعي.
لا داعي للقلق، فلمرة واحدة، وفي ظرف سهرة، يتم نسيان الكبت الجنسي، وخيبات الأمل المهنية، والجهد اليومي، والضغوط المجتمعية والعائلية. يُرمى كل ذلك على الأسفلت البارد على الشاطئ، قبل الولوج إلى السهرة النيلية.

كلفة النزهة النيلية لا تقارن بأسعار المطاعم العائمة (روجر أنيس/Getty)
كلفة النزهة النيلية لا تقارن بأسعار المطاعم العائمة (روجر أنيس/Getty)

بسرعة فائقة، يخرج زورق من الظل جالباً مجموعة من المشاركين الجدد. يثير عنصر المفاجأة والطابع السينمائي المصاحب فضول الحشد الذي يزداد كثافة. تتمايل الفلوكة مع الأمواج. على عكس القوارب التي خصخصها الأغنياء المصريون والأجانب ليعيشوا فيها، فإن هذا الموعد النهري الأسبوعي يخلق شعوراً بالانتماء إلى شلة ما، من دون أن يكون إقصائياً، فالفكرة تكمن في اللقاء والاختلاط والمشاركة، كما لو أنها مناسبة لنسيان الظروف والمصائر في مياه النيل المضطربة والملوثة إلى درجة الانصهار؛ وإلى درجة الارتياح. لا يوجد شعور أكثر تحرراً من تفريغ المثانة عند مقدمة السفينة بالنسبة للرجال في مواجهة ضخامة انعكاسات المدينة. هنا مرة أخرى الراحة هي الهروب. يمكن للنساء أيضًا أن يقمن بذلك، في مؤخرة السفينة، بجانب قبطان بارد الأعصاب شاهد ما يكفي خلال مهنته، ولا يتفاجأ من أي شيء. يمكن أيضاً للأكثر حرجاً العودة إلى الشاطئ لتفريغ مثانتهم في مطعم مقابل للجِسْر العائم.
إنها الواحدة صباحاً، للأسف انتهى الحفل. العودة إلى الأرض محزنة. عند مدخل الدرج المؤدي إلى المدينة، تقف فاطمة، مبالغة في دورها كحارس لتحصيل ما تستحقه. يمنحها حجابها الأسود وقاراً أكبر. العمل كالمعتاد على أرض القاهرة. يعيد المحتفلين من حلمهم إلى مرارتهم اليومية، مع لدغة أولى تتمثل في استخراج الفلوس من جيوبهم.
لحسن الحظ، يتيح عمر، بائع البطاطا الحلوة المتجول، تليين هذه العودة المفاجئة إلى الواقع، ولفها في نفحة من الدخان المعطر. هذه أيضا لحظة مؤاتية للارتخاء الشائع على ضفاف المدينة، وشرفات مقاهي القاهرة، بين لعب الطاولة ونفث الشيشة، كما لو أن البعض يريد تمديد الوقت.
في وقت لاحق، يتبدد الحشد تدريجياً، ويعود إلى وتيرة الحياة الحضرية الجنونية للعاصمة. وذلك على مدار أسبوع طويل.

يُنشر بالتزامن مع أوريان 21

المساهمون