تُعرف مدينة رأس العين في محافظة الحسكة السورية، بتاريخها العريق إذ مرت بها حضارات عدة، بينما تعاقبت في وقتنا الحاضر، تحديداً منذ عام 2011، أطراف عدة في فرض سيطرتها عليها
منذ أكتوبر/ تشرين الأول 2019، حين خرجت "قوات سوريا الديمقراطية (قسد)" منها، لا يكاد يمرّ أسبوع من دون أن تنزف دماء أهالي مدينة رأس العين في ريف الحسكة في أقصى الشمال الشرقي من سورية. هناك، قُتل وأصيب العشرات من المدنيين بتفجيرات متعاقبة حوّلت هذه المدينة التي كانت تضم 300 عين مياه عذبة، الى بحيرة من الدماء والألم.
عند الحدود السورية - التركية تقع مدينة رأس العين التي تبعد عن مدينة الحسكة نحو 85 كيلومتراً وعن مدينة القامشلي المسافة نفسها تقريباً. مرت المدينة ذات الريف الواسع والمتنوع بمكونات سكانه، بتحولات كبيرة منذ عام 2011 حين انطلقت الثورة السورية، إذ التحقت رأس العين في ركاب الثورة كغيرها من المدن والبلدات السورية. في عام 2012، خرجت المدينة عن سيطرة قوات النظام السوري، إذ سيطرت عليها فصائل من الجيش السوري الحرّ، بالإضافة الى جبهة النصرة. لكنّ وجود هذه الفصائل لم يطل في مدينة رأس العين، إذ انتزعت الوحدات الكردية المدينة وجزءاً كبيراً من ريفها في منتصف عام 2013، وبقيت تحت إدارتها حتى أواخر العام الماضي عندما عادت فصائل المعارضة السورية الى المدينة بمساعدة مباشرة من الجيش التركي، بعد معارك ضارية أدت الى تدمير جانب من المدينة.
وبحسب مصادر محلية، كان عدد سكان مدينة رأس العين في عام 2011، أكثر من 50 ألفاً، نحو 60 في المائة منهم من العرب، والبقية من الأكراد، مع وجود عدة عائلات آشورية، وأخرى تركمانية. وتعد مدينة رأس العين من المدن السورية التي تضرب جذروها عميقاً في التاريخ، إذ مرت عليها أغلب الحضارات القديمة من آرامية، وآشورية، ورومانية، وفارسية والتي سادت في عصور ما قبل ميلاد المسيح. وكانت رأس العين تعرف باسم كابارا في العهد الآرامي، وكوزانا في العهد الآشوري ورازينا أو رسين وتيودسليوس في العهد الروماني.
وتؤكد بعض المصادر التاريخية أنّ منطقة تل حلف بالقرب من مدينة رأس العين كانت مركزاً لمملكة "جوزانا" الآرامية التي ازدهرت خلال الألف الأول قبل الميلاد. وكشفت تنقيبات أثرية أجريت في المنطقة خلال القرن الماضي، آثاراً آرامية وآشورية تؤكد أنّها كانت من أهم المراكز الحضارية في عصور ما قبل الميلاد. وفي عام 1911، اكتشف الدبلوماسي الألماني ماكس فون أوبنهايم، موقع تل حلف، فأمضى 4 سنوات في حفر القصر الآرامي الذي يعود عهده إلى سلالة الملك الآرامي كابارا بن قاديانو، وعثر في أجزاء منه على تماثيل ضخمة لرموز وحيوانات مقدسة فريدة من نوعها، جرى نقلها إلى برلين عبر قطار الشرق السريع. وما زالت في المتاحف الألمانية مئات القطع الاثرية من منطقة تل حلف والتي يعود تاريخها إلى الألف الثالث قبل الميلاد، إذ تشكل فصلاً حضارياً رائعاً من تاريخ الآراميين شمال شرقي سورية.
واسم رأس العين هو ترجمة عربية لاسمها في اللغة الآشورية وهو "رش عيناو" بينما يطلق عليها الأكراد اسم "سري كانيه". وفي عام 640 دخلها العرب المسلمون بقيادة عمر بن سعد، لتتحول في العصر الأموي إلى مركز تجاري مهم وعقدة مواصلات في ما كان يُعرف حينذاك بـ"الجزيرة الفراتية"، والتي كانت من الأقاليم الهامة في تلك الفترة. وفي العصر العباسي كانت مدينة رأس العين مصيفاً لعدد من الخلفاء، لعلّ أبرزهم المتوكل عاشر الخلفاء العباسيين.
وكانت مدينة رأس العين من أهم المراكز الحضارية في منطقة وادي الرافدين (دجلة والفرات) إذ كانت تضم نحو 300 عين ماء تشكل نهر الخابور الشهير الذي يقطع محافظة الحسكة وصولاً الى بلدة البصيرة في ريف دير الزور الشرقي حيث يصب بنهر الفرات رافداً رئيسياً له في الأراضي السورية. ذكرها ياقوت الحموي، وهو المؤرخ والجغرافي الشهير والمولود عام 1179، في كتابه "معجم البلدان" فقال عنها: "هي مدينة مشهورة من مدن الجزيرة بين حران ونصيبين ودنيسر، وفي رأس العين عيون كثيرة عجيبة صافية وتجتمع كلّها في موضع، فتشكل نهر الخابور، وأشهر هذه العيون أربع: عين الآس وعين الصرار وعين الرياحية وعين الهاشمية". لكنّ هذه العيون والينابيع جفّ أغلبها في الوقت الحاضر، مع العلم أنّه يتفجر بعضها كلّ عام في شهور الربيع.
وتعرضت مدينة رأس العين لإهمال وإقصاء كبيرين منذ عام 1970، العام الذي شهد استيلاء الرئيس السوري الراحل، حافظ الأسد، على السلطة في انقلاب عسكري، فلم تولِ الحكومات المتعاقبة أهمية لهذه المنطقة بالرغم من غناها التاريخي.