دير البلح... المدينة الأكثر هدوءاً إلى الأكثر اكتظاظاً في غزة

21 اغسطس 2024
كثيراً ما يحصل تدافع خلال تعبئة المياه في دير البلح (مجدي فتحي/ Getty)
+ الخط -
اظهر الملخص
- **تحول دير البلح**: كانت مدينة دير البلح هادئة، لكنها أصبحت مكتظة بعد العدوان الإسرائيلي في أكتوبر 2023، حيث يقدر عدد المهجرين فيها بمليون شخص مقارنةً بعدد سكانها الأصلي 100 ألف.

- **التحديات اليومية**: يواجه المهجرون صعوبات كبيرة، حيث امتلأت المدارس ومراكز الإيواء، ويعانون من نقص حاد في المساعدات والمياه، مع استمرار الغارات الجوية.

- **الأضرار الزراعية والاقتصادية**: تدمير 75% من الأراضي الزراعية أثر سلباً على مصادر رزق السكان، مما زاد من معاناتهم وتوقف الأنشطة الزراعية.

لطالما اشتهرت مدينة دير البلح، وسط قطاع غزة بالهدوء، وهو ما لا ينطبق عليها اليوم، في ظل التهجير الذي شهدته بعدما ضاقت الأمكنة بالغزيين، حتى باتت الأكثر اكتظاظاً في القطاع.

قبل بدء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، كان الفلسطينيون يصفون مدينة دير البلح الواقعة في وسط قطاع غزة بـ"المدينة التي تنام مبكراً"، كونها الأكثر هدوءاً في القطاع. وكان يقصدها الناس طمعاً بالراحة والهدوء، بعيداً عن الاكتظاظ في معظم المدن والمخيمات. لكنها في أغسطس/ آب الحالي، تحولت إلى المكان الأكثر اكتظاظاً بالمهجّرين
ويقدّر المكتب الإعلامي الحكومي أن عدد الموجودين حالياً في مدينة دير البلح هو قرابة مليون غزي في منتصف الشهر الجاري، علماً أن عدد سكان المدينة والمخيم قبل العدوان كان يبلغ قرابة 100 ألف. اليوم، باتت المدينة مكتظة. حتى إنه قدم إليها بعض المهجرين من مدينة خانيونس، في إطار الإخلاءات الأخيرة المتكررة، علماً أنهم يقيمون في الشوارع.  
في شارع المدينة العام، يصعب إيجاد مساحة فارغة، حيث الكثير من الناس والعربات والسيارات. قبل العدوان، كانت عبارة عن سوق وعربات للباعة الجائلين والسيارات. اليوم، باتت تضم مهجرين وجائلين وخياماً وعربات وبسطات للباعة، بالإضافة إلى الباحثين عن المساعدات، والمترصدين طائرات الاحتلال، التي لا تزال تُنفذ عمليات عسكرية على المنطقة الشرقية للمدينة.
وفي ظل امتلاء المدارس ومراكز الإيواء وحتى الشاطئ بالمهجرين، وضعت عائلات خياماً على مقربة من الشارع العام، وخصوصاً بعد التهجير الأخير من عدد من المناطق في خانيونس، علماً أن الاحتلال الإسرائيلي لا يزال ينفذ غارات جوية على مناطق عدة وسط مدينة خانيونس وشرقها.
وضع محمد القرا خيمته على مقربة من سوق الخضار المركزي لدير البلح، حيث توجد زوجته وأربعة من أبنائه ووالدته المسنة. كان قد بات في العراء مدة أربعة أيام، وحاول عدد من الباعة منعه من إقامة خيمته في المنطقة، إلا أنه عمد إلى وضعها بالقوة. وفي الفترة الأخيرة، شهدت المنطقة بعض المشاكل، جراء عدم توفر مساحات للمهجرين. صنع القرا خيمته من أقمشة وأكياس نايلون، ونقلها إلى المنطقة بصعوبة، حيث أصوات الباعة والضجيج. والدته مصابة بمرضي القلب والسكري، فيما تعاني زوجته من الديسك. يومياً، يبحث عن مؤسسات تتولى توزيع المساعدات. بالنسبة إليه، باتت دير البلح الخيار الأخير، والبديل هو الموت.
يقول لـ"العربي الجديد": "هجرت مرات عدة في خلال الأسبوع الماضي، في إطار الإخلاءات المستمرة في وسط خانيونس، جراء التهديدات الإسرائيلية. وفي الوقت الحالي، أعيش حياة أشبه بالجحيم. يبدأ الضجيج من الخامسة صباحاً ويستمر حتى المساء، فلا أستطيع النوم. والدتي المريضة تعيش حالة من القلق، بسبب نقص الأدوية. مع ذلك، لا خيار أمامنا غير هذه المدينة".  
أما محمد البيطار، فتوجه إلى مدينة دير البلح منذ الشهر الثالث للعدوان، وأقام خيمة كبيره في أرض زراعية، لكنه قلّص مساحة الخيمة لمساعدة العائلات التي هجرت من خانيونس خلال الأسبوعين الماضيين. ويعاني بسبب النقص الحاد في المساعدات والمياه والازدحام والتدافع. يقول لـ"العربي الجديد": "اعتقدنا أننا محظوظون، كوننا من الذين هجروا إلى دير البلح التي ظلت تنعم بالهدوء رغم القصف الإسرائيلي. لكن في الوقت الحالي، تحولت إلى مدينة مزدحمة جداً. لا نرى شيئاً غير الناس في الشوارع. بتنا نحصل على المياه وبعض المساعدات بصعوبة، بسبب التدافع الناتج عن الاكتظاظ".
أصيب البيطار بجروح في ساقه يوم الأحد الماضي، بعدما حاول تعبئة المياه لخيمته وخيمة والدته وشقيقاته. بات الرجل الوحيد في العائلة بعد استشهاد شقيقيه في مارس/ آذار الماضي في مدينة غزة، وهو بين الكثيرين الذين يتعرضون لإصابات نتيجة التدافع للحصول على المساعدات والمياه.

كانت مدينة دير البلح التي تبلغ مساحتها 14 كيلومتراً مربعاً، إحدى أهم المدن الفلسطينية، وتضم مواقع أثرية. منذ القدم، عمل أهلها في الزراعة، إذ تعتبر إحدى أكثر المناطق خصوبة، وتضم أصغر المخيمات في القطاع، حيث يقطن قرابة 30 ألف لاجئ فلسطيني، بحسب إحصائية أخيرة، صدرت بداية عام 2023. فيها 9 مدارس تابعة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا"، و14 مدرسة حكومية، وجميعها باتت مكتظة بالمهجرين.  
وتميزت المدينة بشوارعها الواسعة، والأراضي الزراعية، وأشجار النخيل التي كانت جزءاً أساسياً من هوية المدينة. لكن في الوقت الحالي، باتت جميع تلك الأراضي تؤوي المهجرين في خيام متلاصقة، مع الإشارة إلى أن بعض العائلات والعشائر القاطنة في المدينة سمحت للمهجرين بنصب خيامهم في أراضيها الزراعية. 

ينتظرون الحصول على الطعام في دير البلح (عبد الرحيم الخطيب/ الأناضول)
ينتظرون الحصول على الطعام في دير البلح (عبد الرحيم الخطيب/ الأناضول)

وتعتبر مدينة دير البلح من المدن الرئيسية المنتجة للحمضيات والبلح، بالإضافة إلى المنتجات الصناعية. وكان في المدينة عشرات الآلاف من الأشجار قبل الحصار الإسرائيلي وتمدد العمران، كما يقول المهندس في بلدية دير البلح، والمشرف على المياه المعالجة محمد البحيصي. يضيف: "هناك مخاطر قد تلحق بالمهجرين في مدينة دير البلح، إذ إن المنطقة الشرقية أخليت وتقلصت مساحة المدينة إلى 10 كيلومترات مربعة، تضم أكثر من مليون مهجر". ويتوقع حدوث المزيد من المشاكل نتيجة التدافع والاكتظاظ للحصول على المساعدات، في ظل غياب أية استراتيجية لتوزيع المساعدات وإدارة شؤون المهجرين في المنطقة. من جهة أخرى، هناك تخوف من استهداف الاحتلال الإسرائيلي للمنطقة، وارتكاب المجازر فيها".
‏كانت دير البلح من أولى المدن الذي استقبلت المهجرين في مدارسها، بعد تقسيم الاحتلال الإسرائيلي قطاع غزة إلى منطقتين شمالية وجنوبية. لكنها لم تكن المدينة الأكثر اكتظاظاً، بل خانيونس وخصوصاً خلال الأشهر الثلاثة الأولى من العدوان. ثم انتقل الاكتظاظ إلى مدينة رفح حتى بدء العملية العسكرية في 6 مايو/ أيار الماضي، وبدأ الفلسطينيون يتوجهون إلى دير البلح. 
عبد الله أبو سمرة، وهو رجل ستيني، يشدد على أن الكثير من العائلات جاءت إلى مدينة دير البلح، لأنها ذات سمعة جيدة بين سكان غزة، كونها الأكثر هدوءاً. لكن في وقت لاحق، شهدت مجازر إسرائيلية وسط تجمعات المهجرين. كان قد عاش معظم حياته بين الأراضي الزراعية، علماً أنه تضرر كثيراً جراء الحصار. ويقول لـ"العربي الجديد": "الهجوم الإسرائيلي على المنطقة الشمالية دفع المهجرين إلى مخيمات وسط قطاع غزة، وهي مخيمات دير البلح، والبريج، والمغازي، والنصيرات. لكن الهجمات الإسرائيلية المستمرة دفعت البعض للتوجه إلى خانيونس ورفح. وبعد العمليات العسكرية الأخيرة التي استهدفت خانيونس ورفح، لم يجد الأهالي غير دير البلح، وهي الخيار الأخير بالنسبة إليهم، كونها تتوسط قطاع غزة".

يضيف: "كان أهالي دير البلح يساعدون العائلات، ويقدمون لها الطعام مما هو متوفر في منازلهم وأراضيهم الزراعية. جميعنا اعتقدنا أن العدوان لن يطول. واليوم، نعاني جميعاً للحصول على المساعدات، وقد توقف معظمنا عن العمل، ودمر الاحتلال الأراضي الزراعية التي كانت تشكّل مصدر رزق لعدد كبير من العائلات في دير البلح".
وفي وقت سابق، كشف المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، أن الاحتلال "الإسرائيلي" أتلف نحو أكثر من 75% من مساحة الأراضي الزراعية في قطاع غزة، تمهيداً لضمها للمنطقة العازلة بصورة غير قانونية، وإثر ذلك دمرت السلة الغذائية من الخضراوات والفواكه، وجميع مقومات الإنتاج المحلي.
وحتى شهر مايو/أيار 2024، تشير التقديرات إلى أن نحو 57% من الأراضي الزراعية في غزة أصابتها الأضرار، بالمقارنة مع أكثر من 40% منها في منتصف شهر فبراير/ شباط 2024. واستحوذت خانيونس على أكبر مساحة من الأراضي الزراعية المتضررة، وزادت مساحة الأراضي الزراعية المتضررة في رفح عن الضعف في مايو بالمقارنة مع فبراير، إذ ارتفعت من 4.52 إلى 9.22 كيلومترات مربعة.