استمع إلى الملخص
- أوامر بإخلاء 28 مجمعًا سكنيًا صدرت، حتى للمناطق المدمرة سابقًا، مما زاد من معاناة السكان الذين واجهوا القصف أثناء الفرار بحثًا عن الأمان.
- الوضع الإنساني في غزة يتدهور بشكل ملحوظ مع استمرار القصف والحصار، مما يؤدي إلى نقص حاد في الخدمات الأساسية وصعوبات في استيعاب الجرحى والشهداء، ويعمق المعاناة الإنسانية.
لا تكاد قوات الاحتلال الإسرائيلي تنهي عملية مركّزة لها في منطقة معيّنة من قطاع غزة إلا وتشنّ أخرى تقتل في خلالها الفلسطينيين المحاصرين وتهجّر آخرين. وأخيراً كان دور حيّ الشجاعية في مدينة غزة الذي لم تندمل جراحه من الحروب السابقة بعد، ولا من الاستهدافات السابقة في خلال العدوان الأخير المتواصل لليوم 266.
ومرّة جديدة، يتعرّض حيّ الشجاعية الواقع في شرق مدينة غزة، شمالي القطاع المحاصر، إلى قصف عنيف ومكثّف من قوات الاحتلال التي تدكّ مناطق عديدة فيه بطريقة وُصفت بأنّها غير مسبوقة. وقد شُنّت عملية مفاجئة، صباح أمس الخميس، قبل أن يخرج المتحدّث باسم جيش الاحتلال الاسرائيلي أفيخاي أدرعي ويأمر سكان الحيّ بمغادرته، في حين كان الشهداء يسقطون والمباني التي ما زالت واقفة تُدمّر.
وتتكرّر مشاهد النزوح الذي تحرق قلوب سكان الحيّ الذين اختبروا التهجير مراراً وتكراراً، ليس فقط في خلال هذه الحرب المتواصلة على قطاع غزة منذ أكثر من ثمانية أشهر، إنّما كذلك في حروب إسرائيلية سابقة. وكان من الممكن رؤية أطفال يحملون حقائبهم المدرسية على ظهورهم، وقد خرجوا مذعورين من المباني التي كانت تؤويهم وراحوا يركضون في حين أن القذائف تنهال عليهم. يُذكر أنّ حقائبهم تلك كانوا قد أفرغوها من كتبهم المدرسية بعد خسارة عامهم الدراسي وسط العدوان، ووضعوا فيها ما تبقّى لديهم من ملابس وأحذية بالإضافة إلى وثائق ثبوتية.
وأصدر الاحتلال الإسرائيلي أوامره بإخلاء 28 مجمعاً سكنياً في حيّ الشجاعية وحيّ التفاح الملاصق له. لكنّه يتبيّن من خلال الاطلاع على الخريطة التي نشرها، أنّ ثمّة مناطق هناك سبق أن سُوّيت بالأرض في ديسمبر/ كانون الأول 2023. ويثير هذا الأمر استغراباً لأهل غزة، إذ إنّ الاحتلال، بعدما كان قد قضى كلياً على مواقع بحدّ ذاتها راح يوجّه الأوامر للخروج منها، ولا سيّما منطقة التركمان التي دمّر فيها مربّعاً سكنياً كاملاً في بدايات حربه الأخيرة. وفي الساعة الحادية عشرة من قبل ظهر أمس الخميس، رصد عدد من سكان حيّ الشجاعية لجهة الشرق تحرّك مركبات عسكرية في اتّجاه الغرب، خصوصاً صوب شارع بغداد الرئيسي في الحيّ، ذلك الذي يفصل منطقة التركمان عن الأحياء المجاورة مثل حيّ التفاح ومنطقة مقبرة التوانسي المعروفة والمكتظة بالسكان.
الفلسطيني محمد حلس، البالغ من العمر 34 عاماً، يعيش مع من تبقّى من عائلته في حيّ الشجاعية الذي يُعَدّ مسقط رأسه. يخبر "العربي الجديد" أنّ أفراد عائلته بمعظمهم نزحوا إلى جنوبي قطاع غزة بعدما هجّرتهم آلة الحرب الإسرائيلية، لكنّه صمد مع عدد قليل من العائلة في الشمال الذي عُزل عن الوسط والجنوب. ويبيّن أنّهم نزحوا مرّات عدّة إلى مناطق مختلفة في مدينة غزة، لكنّهم أخيراً عادوا إلى حيّهم لعدم رغبتهم في البقاء غربي مدينة غزة، حيث يسيطر الجوع والعطش مع عدم توفّر خدمات، باستثناء قليل من الخدمات الطبية المقدَّمة في مستشفى واحد فقط.
ويشير حلس إلى أنّ "القصف بدأ بشدّة على مناطق كثيرة قريبة منّا، فرحنا نجري إنّما من دون طاقة، فنحن جياع. لم نكن نعرف إلى أين نتوجّه، فسارعنا إلى المنطقة الغربية في اتجاه شارع صلاح الدين. هناك، تجمّعت عائلات بأكملها وسط البكاء والنحيب. الأطفال كانوا مرعوبين، وقد راح أطفال يبكون لأنّ آباءهم لم يلاقوهم بعد، علماً أنّ من بين هؤلاء أشخاصاً طاولهم القصف وهم يجمعون حاجيات لهم من منازلهم". ويؤكد حلس أنّ "ثمّة عائلات عادت إلى حيّ الشجاعية بسبب الجوع، وراح أفرادها يبحثون عن أيّ طعام ممكن في المنازل المدمّرة وبين الأنقاض. كذلك عادت عائلات أخرى هرباً من تكدّس الناس في غرب مدينة غزة". يضيف: "ونحن كذلك متعلّقون بالحيّ على الرغم من الدمار والمجازر التي لم توفّرنا في الحروب السابقة على غزة"، مشيراً أنّ "المنازل كلها إمّا مدمّرة كلياً وإمّا جزئياً. ومن ثم تأتي عودتنا إلى هذا الحيّ بسبب ارتباطنا بترابه، فيما الاحتلال يصرّ على ملاحقتنا بالقتل والتهجير".
يُذكر أنّ أسلوب الهجوم المفاجئ نفسه الذي اعتمدته قوات الاحتلال على مخيّم جباليا شمال شرقي مدينة غزة في مايو/ أيار الماضي، نفّذته في استهدافها حيّ الشجاعية أخيراً. ويُعَدّ حيّ الشجاعية من أكثر الأحياء الكبرى في مدينة غزة التي تعرّضت لتدمير كبير. وفي سياق متصل، أعلن جهاز الدفاع المدني في قطاع غزة أنّ طواقمه غير قادرة على التعامل مع العدد الهائل من الاستهدافات، وسط نفاد الوقود واعتماد عناصر منهم على قدراتهم البدنية في الوصول إلى مواقع الاستهداف ومحاولة إنقاذ الجرحى وإخراجهم منها على نقّالات. يُذكر أنّ طواقم الدفاع المدني لم تتمكّن من الوصول إلى عدد من الشهداء والجرحى في حيّ الشجاعية أخيراً.
وتلاحق المأساة أهالي مدينة غزة أينما وُجدوا، كذلك في المستشفى الوحيد الذي ما زال في الخدمة، المستشفى المعمداني (المستشفى الأهلي العربي) التي يستقبل أعداداً كبيرة من الجرحى ولا يستطيع استيعاب أعداد الشهداء. يُذكر أنّ مجزرة رهيبة ارتُكبت في هذا المستشفى في بدايات الحرب على غزة، تحديداً في 17 أكتوبر/ تشرين الأول 2023. واليوم، يُعالَج جرحى فيه على الأرض، بحسب ما يقول الفلسطيني عمر أبو بيض البالغ من العمر 28 عاماً.
وكان أبو بيض قد نقل شقيقه تامر البالغ من العمر 20 عاماً من حيّ الشجاعية إلى هذا المستشفى، وذلك على عربة يجرّها حمار مع عدد من المصابين. وعندما وصلوا إلى المستشفى المعمداني، كانت الطواقم الطبية قد وضعت الأطفال وكبار السنّ والنساء أولوية لها، وسريعاً امتلأت الأسرّة فيما الدماء تغطّي أرض ممرّات المستشفى الذي يستقبل الحالات الطارئة في غياب الخيارات الأخرى في مدينة غزة. وبحسب أبو بيض، فإنّ المستشفى المعمداني قريب من شارع عمر المختار الذي يطلّ على شارع صلاح الدين إلى الغرب من حيّ الشجاعية.
ويخبر أبو بيض "العربي الجديد" أنّ عدداً من سكان منطقة التركمان في حيّ الشجاعية كانوا في شارع صغير عندما استهدفتهم طائرة إسرائيلية مباشرةً، من بينهم أفراد عائلتَي حسنين وحبيب الذين يُقدَّرون بالعشرات. يضيف أبو بيض أنّهم لم يروا سوى دخان يتصاعد، ولم يخرج أيّ من أفراد العائلتَين من الشارع. وحتى كتابة هذا التقرير، لم يكن مصيرهم قد عُرف بعد؛ هل هم أحياء أم شهداء. ويتابع أنّه في طريق نزوحه، عثر على شقيقه بين الجرحى في الشارع.
ويوضح أبو بيض أنّ "طائرات الاستطلاع الإسرائيلية كانت تراقب أدقّ تحركاتنا، قبل ذلك الهجوم. وكان الناس يفترشون الأرض وسط الركام، وقد استخدموا قطعاً من القماش لعلّها تقيهم من أشعّة الشمس. هم كانوا يريدون البقاء في الحيّ فقط، وهم لا يشكّلون أيّ خطر ومن ثم لا مبرّر لارتكاب مجازر بحقّهم"، كأنّما لاغتيال الشهداء الآخرين الذين سقطوا طوال أيام العدوان تبريرات. ويتذكّر أبو بيض المشاهد الأخيرة قبل الهجوم، "كنّا فيها نبحث عن مياه وغذاء، إذ لم نعد قادرين على تحمّل الجوع". ويكمل أبو بيض أنّ "ما يزيدني حزناً أنّ عدداً من الشهداء الذين نُقلوا إلى المستشفى المعمداني كانوا قد فارقوا الحياة وهم جائعون وعطشون. وكان من بين هؤلاء شبّان رافقوني مع مجموعة إلى سوق الزاوية ومناطق في غرب مدينة غزة يومياً، للبحث عن الطعام". ويتحدّث عن أحدهم "قال لي إنّه لم يتناول أيّ طعام منذ ثلاثة أيام"، ويؤكد أنّ "حيّ الشجاعية في هذه الحرب تعرّض لإبادة ومسح بالكامل من الاحتلال".
وتحاصر قوات الاحتلال الإسرائيلي عدداً من المنازل في المنطقة الشرقية (التركمان) من حيّ الشجاعية، فيما سكّانها في داخلها، بحسب ما أفاد أشخاص وصلوا إلى المستشفى المعمداني. ويقول فؤاد المغنّي، من سكان الحيّ، إنّ العائلات ما زالت تنزح حتى اليوم، بعد المجزرة الإسرائيلية الأخيرة. والمغنّي، البالغ من العمر 56 عاماً، من أعضاء اللجنة الاجتماعية العشائرية التي أنشأها عدد من مخاتير غزة، والتي كانت تساهم في توزيع المساعدات على سكان حيّ الشجاعية في الأشهر الماضية. لكنّه يشير لـ"العربي الجديد" إلى أنّه "منذ أكثر من شهر، لم نعد نأتي بأيّ عمل تطوّعي، إذ إنّ المساعدات لم تعد تدخل بانتظام". وقد نزح المغنّي مع عدد من أفراد عائلته بعد تدمير ما تبقّى من منازلها، ويؤكد أنّه "من العائلات التي كانت تقيم في منازلها المدمّرة جزئياً".
وبعد الهجوم الأخير، ما زال المغنّي في المستشفى المعمداني ولا يعرف إلى أين ينزح من جديد. ويوضح: "لم يتبقَّ شيء في حيّ الشجاعية. المنازل المدمّرة تمثّل على الأقلّ 90% من منازل الحيّ، فيما القتل متواصل والجوع والعطش". ويلفت إلى أنّ "حيّ الشجاعية كان قد تعرّض إلى مجزرة كبرى في عام 2014، لكنّه في خلال العدوان الحي تعرّض لمسح كامل. فالمباني دُمّرت وقُتل من فيها"، مشدّداً أنّ "الاحتلال يريد قتل أهالي حيّ الشجاعية مثلما فعل سابقاً".