لا تزال الحمامات المعدنية في الجزائر تستقطب الكثير من السياح من مختلف الأعمار والمناطق، خاصة خلال عطلة نهاية الأسبوع، سواء للاستجمام والراحة أو للعلاج من أمراض مختلفة داخلية وجلدية، فيما يجدها البعض خاصة أولئك الكبار في السن أماكن للراحة واستعادة ذكريات قصص قديمة عاشوها في ربوعها.
يتعلق الجزائريون منذ عقود بالحمامات المعدنية التقليدية مثل حمام ملوان وحمام ريغة قرب الجزائر العاصمة، وحمام بوحنيفية وحمام الشيقر (غرب)، وحمام المسخوطين وحمام الصالحين (شرق)، وحمام زلفانة (جنوب) وغيرها. وهذه الأماكن ليست للاستحمام والترفيه فقط، إذ تحوّلت إلى تراث مادي ومعالم للمدن التي تتواجد فيها، وجزء مقدس من الذاكرة الحيّة للبلاد، فكل مركب حموي يحكي قصة وتاريخاً عن منطقة معينة، وبعضها ما زالت جدرانها مشيّدة بحجارة رومانية، وتستخدم أنظمة قديمة لتصريف المياه، ما يشير إلى أن هذه المناطق ضاربة في أعماق التاريخ.
وتضم الجزائر اليوم نحو 200 منبع تحوّلت بعضها إلى مركبات وفنادق عصرية استغلتها الدولة في مشاريع لتنشيط السياحة الداخلية، وبقيت أخرى في حالتها التقليدية غير مستغلة بطريقة جيدة.
وبين الخرافة والحقيقة العلمية، تتواجد معظم الحمامات المعدنية في المحافظات الداخلية للجزائر، واعتبرت الوجهة السياحية الأولى للمواطنين خلال سنوات عقدي السبعينات والثمانينات من القرن العشرين، قبل أن تحدّ الأزمة الأمنية من تنقلات الجزائريين إلى محافظات بعيدة، وتعرّض هذه المركبات الحموية إلى عمليات تفجير وهجمات إرهابية.
حمام ملوان
ويعد حمام ملوان من أشهر الحمامات في منطقة الوسط والمتيجة، ويبعد مسافة 50 كيلومتراً من الجزائر العاصمة، وتحديداً في بلدية بوقرة شرقي محافظة البليدة ضمن منطقة شبه جبلية تحيط بها غابات ومناظر رائعة من كل جانب، ما يعطي قاصديه راحة نفسية ومتعة سياحية عبر سلوك الطريق المؤدي إليه.
ويخبر رئيس جمعية أصدقاء البيئة والسياحة الجبلية مراد سالي "العربي الجديد" أن "هذه المنطقة الجبلية كانت محرمة على الجزائريين خلال العشرية السوداء، إذ كانت مراكز أساسية للجماعات الإرهابية". ويشير إلى أن "الحمام ووديانه الساخنة كانت ولا تزال مقصداً رئيسياً للمواطنين من مختلف المحافظات، علماً أن اسمه يرتبط برواية قديمة يتداولها الكثير من سكان منطقة المتيجة، وتتحدث عن ابنة آخر دايات الجزائر، الداي حسين، التي أصابها طفح جلدي جعلها تلازم الفراش وتنعزل عن الناس بعدما عجز الأطباء عن معالجتها، ونصحها أحد أقرباء الداي حسين بالتوجه إلى مكان في سفح جبال الأطلس البليدي الذي يبعد 70 كيلومتراً من جنوبي الجزائر العاصمة، ويقصده الناس للتبرك والتداوي من شتى الأمراض. وقبل الداي حسين هذه النصيحة كآخر حل لعلاج ابنته التي شفيت حين قصدت المنبع، واستعادت وجهها الحسن".
يضيف سالي أن "هذه الحادثة زادت مصداقية المكان الذي أطلق عليه اسم عوينة البركة، أي منبع البركة الذي تخرج منه المياه الساخنة قبل أن تجري عبر الوادي الذي يأتي مصبه من مقطع الأزرق، ويعد مقصداً لآلاف العائلات".
حمام الشيغر
وعلى غرار حمام ملوان، اشتهرت حمامات أخرى في علاج الأمراض مثل حمام الشيغر الذي يتواجد في محافظة تلمسان أقصى غرب الجزائر على الحدود مع المغرب، وهو تحوّل إلى وصفة رئيسية من متخصصين في الطب الداخلي وطب الكلى حيث يوجهون مرضاهم إلى هذا الحمام لشرب مياهه من اجل تفتيت الحصى والترسبات التي تتجمع في الكلى، وهو ما يؤكده لـ"العربي الجديد" الدكتور محمد كركوري الذي يملك عيادة متخصصة في أمراض الكلى بمحافظة البليدة.
حمام ريغة
وفي أعالي منطقة بومدفع بمحافظة عين الدفلى والتي تبعد 90 كيلومتراً من الجزائر العاصمة يتواجد حمام ريغة الذي يصنف بأنه منطقة حموية من الطراز الأول تستقطب وتستهوي هواة السياحة البيئية والثقافية بفضل مميزات وجودها على ارتفاع 600 متر عن سطح البحر.
ويملك هذا الحمام تاريخاً يمتد لقرون إذ اكتشفت أحواضه المعدنية عام 44 قبل الميلاد، وموقعه مثالي ضمن منطقة جبلية مليئة بغابات تحميه من الرياح والطقس البارد، ما يزيد جاذبيته بالنسبة إلى الزوار، كما أن مياهه مالحة وغنية بمادة كبريت الكالسيوم، وفيه أيضاً مكان يضم مياها معدنية باردة وغازية غنية بالحديد ولذا يحمل اسم منبع القارصة، تعتبر مياهه ذات فوائد بالغة الفعّالية في علاج أمراض الروماتيزم وآثار الرضوض وأمراض فقر الدم والعجز الكلوي واليرقان، واضطراب وظائف الجهاز الهضمي وأمراض اخرى. وهو يضم تجهيزات وُضعت في متناول الأطقم الطبية لمتابعة المرضى، خاصة بعدما خصصت وزارة السياحة مبالغ مالية ضخمة لتحديث هذا المركب الذي يحتوي أيضاً على فندق من فئة 3 نجوم، وغرف وشقق فاخرة مجهزة بكل متطلبات الحياة المريحة.
ويعد المركب مقصداً رئيسياً للكثير من الشخصيات والمسؤولين الكبار في الدولة. وكانت والدة الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة تعشق هذا الحمام الذي تستقر فيه لأيام عدة، بحسب ما يروي العديد من عمال ومسؤولي المركب الذين يخبرون "العربي الجديد" أنها كانت تفضل هذا المكان على التداوي في مركز العلاج بمياه البحر الموجود في منطقة سيدي فرج القريبة من مكان إقامتها.
ثروة يجب تثمينها
ويقول رئيس الفدرالية الجزائرية للسياحة عيسى دردوري لـ "العربي الجديد" إن الحمامات المعدنية مورد مهم للسياحة، لكنها لم تستغل بالقدر اللازم، ولم يتم تثمينها لدعم التنمية المحلية والسياحة الداخلية باعتبارها ثروة طبيعية يمكن أن تخلق أيضاً فرص عمل، وتنشط السياحة الداخلية. وكشفت دراسة أجريت على الثروة الحموية في الجزائر وجود 282 مصدرا حمويا مدروسا خضع لدراسات جيولوجيا في الجزائر. وحددت الدراسة أيضاً ميزات المرافق الخاصة بالحمامات، وقدمت توصيات واقتراحات للنهوض بهذا القطاع الاقتصادي المهم من خلال تشجيع الاستثمار الخاص وتطوير المرافق العامة لتوفير فضاءات أفضل للسياحة العائلية الجزائرية ".