قبيل وصول طلائع العرب والمسلمين الأوائل إلى مدينة حلب السورية، كان زلزال عنيف قد ضرب المدينة. في ذلك الوقت، عمد حكامها الجدد إلى ترميمها وإعادة بنائها من جديد. لكن حلب شهدت زلزالاً آخر كان أكثر كارثية وفظاعة، وهو المصنف كرابع زلزال مدمر في تاريخ البشرية، وقد قضى على حوالي 230 ألف من سكان المدينة ومحيطها خريف عام 1138 ميلادي. لكنها نهضت من تحت ركامها، ومرت عليها مراحل من البؤس تارة والازدهار تارة أخرى، وبقيت حلب صامدة كإحدى أهم الحضارات على وجه الأرض بعمر حوالي 10 آلاف عام. وعاشت المدينة زلزالاً جديداً فجر السادس من فبراير/ شباط الماضي، ضرب جنوب تركيا وشمال سورية التي تضم حلب وريفها.
يقول هادي عبد اللطيف، وهو من سكان أحياء حلب القديمة: "بناء بيتي متصدع ما يثير القلق والخوف من المستقبل المجهول"، مضيفاً في حديثه لـ "العربي الجديد": "قضيت عمري أحلم ببيت واسع وعائلة ودخل جيد يحفظ كرامتي. والآن، أرى المستقبل أمامي مليئاً بالوجع والغموض. أحمد الله أن عائلتي بخير، لكنني لن أنتظر المساعدات والوقوف على الأطلال، وسأغادر سريعاً هذه البلاد المنكوبة".
جاء حديث هادي عن الهجرة خلال انفعاله من هول ما حدث. يشير إلى أن "الحرب فعلت فعلها في نفوس الجميع، الذين كانوا ينتظرون بارقة أمل ليأتي الزلزال ويعمق الجروح". يضيف: "أحب حلب ولا أريد مغادرتها. أتمنى ألا أضطر لاتخاذ هذا القرار، وإن اضطررت فسأخبر حجارتها أنني مجبر على ذلك". كان هول الكارثة كبيراً. رأى هادي الموت والدمار وتشرد الناس الذين فقدوا مساكنهم وأحبائهم.
من جهته، يقول رئيس الطبابة الشرعية في حلب هشام شلاش، إن "عدد الوفيات بلغ 444، منهم 8 مجهولو الهوية، بالإضافة إلى ثلاثة أشلاء. كما أن عدد الذكور من بين الضحايا هم 204 بينهم 73 طفلاً، وعدد الإناث 237، بينهم 90 طفلة في حصيلة غير نهائية". ويشير نائب محافظ حلب كميت عاصي الشيخ، إلى أنه تم تنفيذ 28 حالة هدم لأبنية بسبب الخطورة العالية منذ أيام حتى الآن، كما قطعت المياه عن 40 في المائة من حلب لمنع حدوث تسربات بعد الزلزال، وقد تم إنشاء 230 مركز إيواء في حلب تؤوي 100 ألف شخص، والمراكز الأهلية الأخرى تحوي تقريباً رقماً مشابهاً، موضحاً أن الرقم متغير، مقدراً أن هناك 180 ألف شخص نازح.
ما مر على حلب خلال الأعوام الأخيرة، بعدما ثارت أجزاء كبيرة من المدينة وريفها ضد النظام، كلفها مئات الضحايا ودماراً واسعاً في الأحياء الشرقية منها، والتي تعتبر مركز الحراك على النظام في المدينة. فاطمة فحيمان، وهي طالبة في الثانوية العامة، تقول لـ "العربي الجديد": "نحن جيل لم يعرف من الحياة إلا المآسي. حاولنا التأقلم مع العيش بخوف وفقر. وكانت أوقات السعادة مقننة مثل كل شيء. لكن القدر قرر أن يحرمنا من ملاذنا الآمن الوحيد ومن أعز الأصدقاء والجيران". تضيف: "لم ينهار بيتنا في حي صلاح الدين، لكنه لم يعد صالحاً للسكن. لا أجد نفسي قادرة على زيارة الحي أو حتى العيش فيه. رحلت الوجوه والأماكن المحببة لدي. الجيران والبقال وأولاد الحي ومخزون من الصور التي عشقتها يوماً".
أما عمر عموري، أحد أبطال سورية بالكاراتيه من منطقة بستان الزهرة، فيقول لـ "العربي الجديد": "ما زلنا نعيش الصدمة ونبحث عن أصدقائنا وأقاربنا. وفي كل يوم، يزداد في قلوبنا حجم الفاجعة. لم أفقد أحد أفراد أسرتي لكنني أشعر أنني فقدت كل شيء. نحن شعب منكوب قبل الزلزال، وكل منا كان يبحث عن الخلاص الفردي. أما اليوم، فعلينا جميعاً أن نبحث عن الخلاص في هذا الوطن ولا أعرف كيف". يضيف: "في كل لحظة منذ الزلزال، كنا نشعر بالوحدة وما زلنا رغم كل المواقف الإنسانية. نشعر بالوحدة ونخاف من المستقبل القريب والبعيد ولسان حالنا يقول: يا وحدنا".
من جهته، يقول الصحافي فراس ديبة، وابن مدينة حلب اللاجئ في تركيا، إنه بحكم عمله، وصلته صور وفيديوهات قاسية، كما يصفها، مشيراً إلى أن أكثر ما أثر فيه هو وضع أهالي المدينة. يضيف في حديثه لـ "العربي الجديد": "كان وضع أهالي حلب قبل الزلزال مأساوياً. وجاء الزلزال ليجعله أكثر مأساوية. لنا أن نتخيل أن أهالي حلب اللذين خرجوا إلى الشوارع مع حدوث الزلزال، حالهم حال جميع سكان المناطق التي ضربها الزلزال، كانوا يقفون في المطر والبرد ساعات طويلة. وعند العودة إلى المنازل، لا يجدون أدنى مقومات الدفء في بيوتهم بسبب انقطاع الكهرباء وعدم توفر المحروقات وذلك حتى قبل كارثة الزلزال".