استمع إلى الملخص
- تشمل استعدادات الحج طقوسًا تعكس الثقافة الغنية والترابط الأسري مثل شراء الملابس الخاصة وإقامة "الوعدة"، مما يعزز من قيمة الحج كتجربة شاملة.
- تولي السلطات والمجتمع الجزائري اهتمامًا كبيرًا بموسم الحج، من خلال تكريم الحجاج وتوفير الدعم لهم، وتستقبلهم العائلات بالاحتفالات عند العودة، مؤكدين على أهمية الحج في تقوية الروابط الاجتماعية.
بدأت أولى وفود الحجاج الجزائريين الذين يقدّر عددهم بـ34 ألفاً هذا العام في المغادرة بفرح عظيم إلى البقاع المقدسة في مكة المكرمة. انتظر بعضهم طويلاً ليحققوا حلم أداء فريضة الحج، خصوصاً الكبار في السن، فكان ورود أسمائهم في قوائم المقبولين لأداء المناسك أكبر فرحة تزور قلوبهم، ومناسبة وجب الاحتفال بها لتوديعهم قبل أن يذهبوا إلى "جنة الله في الأرض".
قبل الحج، يعامل الحجاج في الجزائر، مثل العرسان بل أكثر، خصوصاً أنّ الجزائريين يعتبرون من يُوفق بورود اسمه في قائمة الحجاج "كأنّما نادت عليه مكة لزيارتها، وقليلون يحظون بذلك". وهذا الاعتقاد السائد بأن البقاع المقدسة تنادي زوارها، ترويه الكثير من القصص لأشخاص قدموا لسنوات ملف الحج من دون أن يحظوا بهذا الشرف.
ومن بين العادات المكرسة لدى العائلات الجزائرية قبل الحج، أن يستعد الحاج للرحلة بشراء الملابس الخاصة بالمناسبة، وبعض الأغراض التي يحتاجها في البقاع المقدسة. ويحرص أهله على توفير كل الأغراض الضرورية التي يحتاجها في رحلته، كما يلتزم الحاج قبل سفره بتنفيذ أحد أبرز التقاليد، والمتمثلة في زيارة أهله وأقاربه وذويه وجيرانه لتوديعهم، وطلب السماح والصفح منهم، وإحلال الصفاء بينهم قبل الذهاب إلى الحج.
يقول عبد السلام رحماني لـ"العربي الجديد": "سجلت اسمي في قرعة الحج ثماني مرات، ولم أدرج في القوائم، لكن هذا العام أذِنت لي مكة، وفزت بالقرعة، وأنا أستعد للذهاب إلى مكة المكرمة. وهناك تقاليد شعبية يجب القيام بها عبر زيارة كل أقربائي لطلب الصفح منهم، وهو ما كان يفعله أجدادي قبل السفر للحج".
ولأن الحج يمثل حالة فرح لدى عائلات الحجاج، يجب الاحتفال به بإقامة "الوعدة" (وليمة)، حيث يطهى طبق الكسكسي باللحم، ويوضع في وعاء مصنوع من خشب يسمى الجفنة أو القصعة، ثم ينقل إلى أقرب مسجد يتواجد قرب بيت صاحب الاحتفال، ويأكل منه المصلون، كما يوزع على الفقراء.
يحتاج تأدية مناسك الحج إلى تخطيط وترتيبات وتتطلب استعداداً روحياً ونفسياً وبدنياً
ويقول محمد كبيش لـ"العربي الجديد": "تنتشر هذه العادة غالباً في كل ربوع المدن الجزائرية، وتنفذها العائلات قبل سفر الحجاج. هذه المرة الثانية التي يحج فيها والدي إلى بيت الله، ويقضي التقليد إلى جانب توزيع الطعام في مسجد المدينة وعلى الفقراء، بدعوة كل الأقارب والأحباب والجيران والأصدقاء الى مأدبة عشية السفر للحج لتوديعهم"، كما تنظم في المناطق عملية تخضيب الحنّاء للنساء والأطفال، إذ تعتبر الحنّة علامة للفرح ورمزاً للاحتفال.
وفي السنوات الأخيرة، باتت السلطات والبلديات في الجزائر تولي مزيداً من الاهتمام بموسم الحج، وتعتبر أن توفير كل الظروف المناسبة وتكريم الحجاج قبل سفرهم عملان مباركان ضمن خدمات زوار بيت الله، لذا تحرص سلطات في بلديات عدة على دعوة حجاجها إلى مسجد المدينة للتحدث إليهم، وحثهم على حسن الاعتناء بأنفسهم خلال رحلة الحج، واحترام تعليمات البعثة الرسمية التي ترافقهم إلى البقاع المقدسة، ومطالبتهم بالدعاء للبلد بالخير. وهذا ما فعله مجلس بلدية أفلوا بولاية الأغواط (وسط) الذي جمع حجاج البلدة في مسجد أبو بكر الصديق. أيضاً توفر بعض البلديات حافلات مكيفة للحجاج، وتؤمن مرافقة لهم بالطبل والدف.
ويرافق أفراد من العائلات الحجاج لدى مغادرتهم لزيارة البقاع المقدسة، وينضمون إلى مواكب تضم عدة سيارات تنطلق من بيت الحاج إلى المطار. ولا تختلف هذه المواكب عن تلك التي للعرسان، إذ تضم الأبناء والأحفاد والأقارب، وتعمّ فيها الفرحة أثناء توديع الحجاج بالدعاء والزغاريد بأمل أن يعودوا سالمين مُعافين، وهم يحملون أيضاً لقب الحاج.
وقبل عودة الحجاج تحضّر العائلات البيوت لاستقبالهم، ما يشكل أيضاً فرصة لإقامة احتفالات تتضمن طقوساً تعلوها الزغاريد لإبراز الفرح بعودة الحجاج وإنجازهم الركن الخامس من أركان الإسلام. وهذه المواكب التي تحصل باستخدام سيارات حالياً كانت تسمى "الركب" سابقاً حين كانت وسائل النقل البدائية تستخدم الخيل والدواب لإيصال الحجاج من بيوتهم وقراهم إلى نقاط التجمع في محطات الحافلات أو الموانئ".
وفي السابق كان جزء من قوافل الحج التي تسمى "ركب الحج" تتجه إلى ميناء الجزائر العاصمة، ومنه الى مصر والبحر الأحمر قبل الوصول الى مكة، في حين كانت قوافل حج أخرى تعبر البر مشياً فتستغرق رحلة الوصول إلى مكة بضعة أسابيع قبل العودة إلى البلاد، ويتحمّل الحجاج المشقّات التي تصادفهم في طريق الرحلة ذهاباً وإياباً.
وتؤكد الباحثة في التاريخ بجامعة قسنطينة شرق الجزائر، سمية قسوم، لـ"العربي الجديد"، أن "تأدية المناسك عملية تحتاج إلى تخطيط وترتيبات كبيرة وتتطلب استعداداً روحياً ونفسياً وبدنياً، إلى جانب توفير كل ما تحتاجه القافلة من مؤونة. وركب الحج كان رحلة من مرحلتين، الأولى في بلاد المغرب تمر عبر الجزائر وولايات تلمسان وبجاية وقسنطينة وعنابة، ثم تدخل إلى تونس وتتوجه إلى صحراء برقة وطرابلس والإسكندرية والقاهرة في مصر. أما المرحلة الثانية فتتضمن السفر بحراً من مصر إلى جدّة في مراكب تحجز خصيصا للحجاج. ولأن هذا المسار كان عسيراً كان يقضي بعضهم نحبهم في الطريق قبل الوصول إلى مكة أو العودة منها، وتوفي بعضهم في البقاع المقدسة ودفنوا هناك".
وفي حديث سابق لـ"العربي الجديد" قالت أستاذة علم الاجتماع في جامعة الجزائر، فريدة نوي، إن "عادات الاحتفال بالحجاج تختلف بين منطقة وأخرى، وتحمل معاني عدة، فهي ظاهرة اجتماعية محمودة تعبر عن أواصر المحبة، وتظهر تعظيم الشعائر الإسلامية، كما تزرع الغبطة والسعادة بالحج في النفوس بسبب ارتباطها بتقاليد توارثتها العائلات".
أضافت: "ينظر معظم الجزائريين بفرح كبير إلى الحج باعتباره مناسبة محببة في نفوسهم تأتي مرة كل سنة، وتصح لمن أعد العدة، في حين يعتبر البعض الحج بركة تمنح العائلات طاقة متجددة مع عودة الحجاج من أقدس وأطهر مكان في الدنيا".
وتبقى ممارسات الأعياد الدينية في الجزائر من الأشكال الرمزية والطقوس الاحتفالية. ويحافظ المجتمع على تراثه الشعبي الموروث في المناسبات، خصوصاً في الحج وعيد الأضحى بما يحملان من موروث يتضح جلياً في مظاهر الفرح والابتهاج، علاوة على تقوية أواصر التواصل العائلي والتضامن الاجتماعي. وكل ذلك يزيد تماسك المجتمع، ويقوي العلاقات بين أفراده.