منذ اليوم الأول للعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، طالب جيش الاحتلال سكان الشمال ومدينة غزة بالتوجه جنوباً، بزعم أن الجنوب أكثر أمناً، ومع بدء الاجتياح البري في نهاية أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، نصب الاحتلال حاجزاً عسكرياً دائماً في شارع صلاح الدين، أطول شوارع القطاع، حتى يتمكن من التحكم بالحركة بين الشمال والجنوب، وفصل الجزء الشمالي تماماً عن الوسط والجنوب، فضلاً عن التحكم في حركة النازحين، وتدقيق هوياتهم.
وحسب تأكيدات نازحين وصلوا إلى جنوب القطاع، فقد خصص الاحتلال ممراً لعبورهم باتجاه الجنوب، وقبل الوصول إلى هذا الممر يجري التدقيق في الأسماء والوظائف وبطاقات الهوية، ثم يجمعون للدخول مرة واحدة، وأثناء الدخول قد يطلب من البعض التوقف مجدداً، ويعاد التحقيق معهم، حتى لو كان ذلك يعني فصلهم عن ذويهم، والذين لا يتم إعلامهم بأي تفاصيل.
كانت عائلة الفلسطيني محمد مهنا ترفض النزوح إلى جنوبي قطاع غزة لأسباب مرتبطة بوجود مسنين ومرضى، من بينهم والدته ووالده المسنان، وعمه الذي يعاني من أمراض عدة، لكن أجبرهم الاحتلال على النزوح بعد توسيع دائرة التوغل البري والقصف.
من داخل الحاجز العسكري، اعتقل الاحتلال محمد مهنا (43 سنة) يوم الثلاثاء 21 نوفمبر/ تشرين الثاني، وكان معه العديد من أفراد أسرته وأقاربه، من بينهم مسنون وأطفال، وطلبوا منه خلع ملابسه أمام طفله سهيل (7 سنوات)، وتعاملوا معه بطريقة وصفتها شقيقته فاتن بأنها "مهينة"، ولم يعيروا أي اهتمام لصراخ طفله وزوجته، ثم طلبوا من الأسرة متابعة السير إلى مدينة خانيونس من دون إبلاغهم بمصيره.
لا تعرف زوجة مهنا ما الذي يمكنها أن تفعله، ولم تتخيل أن يحدث هذا المشهد أمامها، وأن يعتقل زوجها بينما قد رضخوا لتهديدات الاحتلال وقرروا النزوح جنوباً، وتؤكد أن طفلها سهيل الذي أنجبته بعد انتظار قرابة 10 سنوات، يعيش صدمة بسبب اعتقال والده الذي كان يحمله قبل لحظات من اعتقاله.
تقول فاتن مهنا لـ"العربي الجديد": "لا نعلم ما خلفية اعتقال شقيقي، فهو موظف في السلطة الفلسطينية، وليس له أي نشاط مع أي فصيل مقاوم، وكان أحد من دمرت منازلهم في عدوان عام 2014، وشقيقي الشهيد شادي قتله الاحتلال في عام 2006. الحاجز مرعب، والناس تحمد الله عندما تجتازه بسلام، لأن فوهات البنادق موجهة صوبنا".
يُعتقل النازحون الغزيون على الحاجز بلا أسباب ولا تعرف العائلات مصير المعتقلين
وتضيف: "كان المشهد مرعباً. أطفال من مختلف الأعمار متكدسون، وأصوات بكائهم حاضرة على طول الحاجز، والنساء يترقبن بخوف، مع وجود أعداد كبيرة من المرضى ومصابي العدوان، والذين كان يجري سؤالهم عن المكان الذي تعرضوا فيه للإصابة، ومنهم من كان يحمل كيس محلول ملحي موصولاً بجسده، وهناك مصاب اعتُقل أمامي، وآخرون مسنون يحملون أكياس البول في أيديهم".
يعتقد كثيرون أن الاحتلال يستخدم تقنية الكشف عن الوجوه في الاعتقالات، واعتقال البعض لسؤالهم عن مكان ذويهم، إذ جرى توقيف محمد النجار (34 سنة)، النازح من مخيم الشاطئ، والتحقيق معه، وسؤاله عن أنشطته في عمله كموظف حكومي، ثم تركه ينتظر ساعتين، قبل أن يطلب منه خلع ملابسه، ثم اتخاذ قرار باعتقاله.
يقول شقيقه أدهم النجار (29 سنة) لـ"العربي الجديد": "استدعانا الاحتلال سوياً، وتم التحقيق معنا. سألوني ماذا أفعل، فأخبرتهم أنني طالب ماجستير في الجامعة الإسلامية. فسألوني: ما علاقتك بحماس، فقلت: أنا مع الله. ثم بدأ التحقيق مع شقيقي الذي يعمل محاسباً في إحدى الدوائر الحكومية، وطلبوا مني المغادرة، وألا أنتظر شقيقي، وإلا عرضت نفسي للخطر. قلت لشقيقي: كان الله معك وفك أسرك... وغادرت".
ويشير النجار إلى أن "الاحتلال اعتقل عدداً من جيراننا من عائلتي صالح وجبر، وجميعهم لا علاقة لهم بالسياسة، وغالبيتهم موظفون، وأخشى أن يستمر اعتقال شقيقي لأنه يعاني من مرض السكري، ولا يمكنه تحمل التعذيب. عندما عدت أخبرت زوجته بأنه سيُحتجز لبضعة ساعات ثم يعود، لكنه معتقل منذ عشرة أيام. الاعتقال محاولة لابتزاز الغزيين، أو نزع أية معلومات منهم. الناس تعاني على الحاجز من طول الانتظار، وشاهدت طفلاً فقد وعيه، كما شاهدت تهديد عشرة أفراد محتجزين. نريد أن تنتهي الحرب ونعود لمنازلنا، ونتمنى أن يعود شقيقي محمد سريعاً".
على الحاجز نفسه، وبعد بداية الهدنة الإنسانية، قام الاحتلال بإطلاق الرصاص صوب عدد من الغزيين الراغبين بالعودة من الجنوب إلى شمالي القطاع، واستشهد على إثر ذلك اثنان، وأصيب 19 آخرون، وتؤكد مصادر وشهود عيان أن الاحتلال عزز وجوده على الحاجز لصدّ أي محاولة للعودة إلى مناطق الشمال.
ولم تتلق معظم العائلات أي أخبار عن المعتقلين على الحاجز من الصليب الأحمر الذي يعتبر الجهة الدولية التي تقوم بالتواصل مع جيش الاحتلال، إذ قطع الاحتلال تواصله مع كل الجهات العاملة في غزة فيما يتعلق بالمعتقلين منذ بداية العدوان.
ويشير مصدر من مكتب الإعلام الحكومي في غزة، إلى أن العدد التقريبي لمن جرى اعتقالهم على أيدي جنود الاحتلال الذين يتحكمون في الحاجز العسكري الإسرائيلي منذ بداية العدوان على القطاع تجاوز 70 شخصاً، لكن الرقم الحقيقي قد يكون أكبر من ذلك، نظراً لأنه لا يمكن تدقيق أعداد المعتقلين، باعتبار أن عدد من تم الإبلاغ عنهم كمفقودين في القطاع يتجاوز 6 آلاف شخص، بعضهم تحت الأنقاض، وآخرون قد يكونون نازحين أو جرى اعتقالهم على الحاجز.
ومن بين أصعب حالات النزوح ما تعرّضت له الطواقم الطبية التي كانت تعمل في مستشفيات شمالي القطاع التي تعرضت للقصف، وقد تعرضت لتنكيل وتعنت خلال إجلائها مع عشرات المرضى تحت إشراف الأمم المتحدة، إذ جرى اعتقال ستة منها، من بينها مدير مجمع الشفاء الطبي، محمد أبو سلمية.
كان الطبيب في مجمع الشفاء، خالد أبو سمرة، من بين الطواقم الطبية التي أوقفها الاحتلال على الحاجز، ويؤكد أن توقيف سيارات الإسعاف التابعة لوزارة الصحة استمر ساعات طويلة، وكانت دبابات الاحتلال تصوّب باتجاه تلك السيارات خلال توقفها في الحاجز.
نزح أبو سمرة إلى مدينة خانيونس ليتابع عمله في مجمع ناصر الطبي، ويقول لـ"العربي الجديد": "اعتقل الاحتلال أفراداً من الكادر الطبي، ولا نعرف مصير بعضهم، لكن منهم من خرجوا لاحقاً. شخصياً، اضطررت لتبديل ملابسي حتى أبدوا كنازح عادي، إذ كان ينظر إلى العاملين في مجمع الشفاء الطبي كأنهم مجرمون، ورغم ذلك تأخر عبورنا لساعات من أجل التحقيق، ثم انتظار قرار من الجيش يحدد مصيرنا".
يضيف أبو سمرة: "كان التعامل مهيناً، وكل حركة محسوبة لأن القناصة في كل مكان، وكان معظمنا يقرأ القرآن في سره، وحضر أحد الجنود وصرخ في وجه أحد الزملاء متسائلاً عما يفعله. كان يتكلم العربية بطلاقة، فرد زميلي أنه يقرأ القرآن. بعد ساعات سمح لنا بالمرور، وطلب منا الاحتلال عدم الالتفات إلى الوراء وإلا تعرضت حياتنا للخطر، مع التأكيد على عدم العودة لاحقاً إلى الشمال".
وحول اعتقال الطواقم الطبية، يقول المتحدث باسم وزارة الصحة في غزة، أشرف القدرة لـ"العربي الجديد"، إنه جرى إبلاغهم عبر منظمة الصحة العالمية بوجود تنسيق لإخلاء مجمع الشفاء الطبي الذي تعرض للحصار والقصف والاقتحام، وتحركت قافلة تابعة للأمم المتحدة لإجلاء عدد من المرضى والطواقم الطبية، لكن الاحتلال احتجز القافلة، وجرى التعامل بوحشية من قبل الجنود مع الطواقم الطبية والجرحى.
يضيف القدرة: "الانتهاكات طاولت الطواقم الطبية على غرار الانتهاكات التي طاولت المدارس والمؤسسات الدولية في قطاع غزة. ليس هناك أي احترام لأي قوانين. كانت قافلة الطواقم الطبية تحت راية الأمم المتحدة، لكنها تعرضت للعنف، وحسب ما وصلنا من معلومات، جرى خلال التحقيق مع أفرادها مطالبتهم بالإفصاح عن أي معلومات حول مجمع الشفاء الطبي. نحمّل الاحتلال الإسرائيلي والأمم المتحدة مسؤولية اعتقال الطواقم الطبية، وتنتظر وزارة الصحة تفسيراً من منظمة الصحة العالمية حول ما حصل، وتفاصيل حول مصير المعتقلين".