يتعمد قناصة الاحتلال استهداف الغزيين في شوارع مدينة غزة، وتظل جثامين هؤلاء لأيام في العراء، إذ لا يسمح لأحد بنقل الجثث، ويطلق القناصة النار صوب من يحاولون ذلك، وحين ينسحب القناصة من المكان، يعود الأهالي إلى الشوارع، فتواجههم مشاهد صعبة للجثامين المتفسخة والمتحللة.
ومع انتشار رائحة الموت في كل مكان، يدفن الأهالي ومتطوعون الجثامين في الشوارع وبجوار المنازل، إذ لا يملكون نقلها إلى المقابر، إما لأنه لا يوجد فيها مكان للدفن، أو لأن الاحتلال قد يستهدفهم. في حين عجزت كثير من العائلات عن دفن شهدائها بعد أن أجبرهم الاحتلال على النزوح، لتتحلل كثير من تلك الجثامين، ما ينذر بانتشار الأمراض والأوبئة.
كانت عائلة أبو مهدي تقيم في شرق حيّ تل الهوا بمدينة غزة، قبل نزوحها إلى مدينة رفح جنوبيّ القطاع. استشهد محمد أبو مهدي (24 سنة) أمام أفراد أسرته في 20 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، وظل جثمانه في الشارع لمدة أربعة أيام، وحين تمكن شقيقه عماد من الوصول إلى الجثمان، وجد أنه بدأ يتحلل، وكان المنظر شديد القسوة.
يقول أبو مهدي لـ"العربي الجديد": "كررت محاولة الوصول إلى جثمان شقيقي، لكني كنت أفشل بسبب إطلاق النار من الطائرة المسيرة (كواد كابتر) التي يستخدمها الاحتلال في استهداف الغزيين، وعندما وصلت إلى الشارع، لم أستطع في البداية تمييز جثمان أخي، فالشارع كان يضم العديد من الجثامين، وكلها كانت شبه متحللة، وبعضها تحول إلى هياكل عظمية".
يضيف: "كنا أكثر من 25 شخصاً في المنزل، هم عائلتي وأقاربنا النازحون من حيّ الزيتون، وكنا نشمّ روائح الموت، وعندما تسألني عن ذلك والدتي البالغة 52 سنة، والتي تعاني من مرض الربو، كنت أخبرها أنها رائحة القمامة القريبة من المنزل. لم أكن أستطيع إخبارها أنها روائح جثث متحللة".
عدم دفن الجثامين يجذب الحشرات والقوارض ويتيح انتشار الأمراض
شاهد غزيون نزحوا أخيراً القطط والكلاب تتجمع بالقرب من جثامين ملقاة في الشوارع. من بين هؤلاء عبد الله صباح (36 سنة)، الذي نزح مع أسرته من حيّ النصر إلى جنوب مدينة خانيونس عبر شارع صلاح الدين، والذي يتحدث عن مشاهدة جثث تنهشها الكلاب في شارع ثمانية الفاصل بين حيَّي الزيتون وتل الهوا، وفي شوارع فرعية مطلة على شارع صلاح الدين من الجهة الغربية.
يضيف صباح لـ"العربي الجديد": "شاهدت الكثير من القطط والكلاب تنهش الجثامين، وكان الكثير من الجثامين متحللاً، ما أصابني بصدمة نفسية شديدة، حتى بدأت أشعر بحالة عصبية عندما أرى القطط والكلاب في خانيونس. الحيوانات ليست مسؤولة عن تلك الجريمة الشنيعة، فهي لا تملك عقلاً يجعلها تميز أن ما تفعله جريمة، ولو امتلكت عقلاً لحزنت علينا، وتضامنت معنا، فالحيوانات أرحم من عدونا الصهيوني".
ومن داخل مراكز الإيواء في مدينة رفح، أكد عدد من النازحين من مناطق مثل حيّ الرمال وحيّ النصر وحيّ الزيتون والشيخ رضوان، أنهم شاهدوا عشرات الجثامين الملقاة في الشوارع منذ نهايات أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وبعضها قتل أصحابها في بداية الاجتياح البري لمناطق مدينة غزة وشماليّ القطاع، موضحين أنهم كانوا مضطرون إلى مواصلة التحرك، ولا يملكون فعل شيء إزاء تلك الجثامين، في ظل متابعة الاحتلال الإسرائيلي لحركتهم، كذلك قصفت طائرات الاحتلال عدداً من النازحين في أثناء سيرهم، وظلت جثامين هؤلاء أيضاً في الشوارع.
يقول مدحت داود (40 سنة) لـ"العربي الجديد"، إن جنود الاحتلال كانوا يطلقون النار صوب من يقتربون من المصابين، أو من يحاولون نقل جثامين ذويهم لدفنها، وإنه طالع ذلك بعينيه في حيّ تل الهوا، موضحاً أن "الجميع يدرك خطورة بقاء الجثامين في الشارع، فتحلل الجثامين سيؤدي إلى انتشار الأمراض، كذلك ينبغي دفنها لتكريم الشهداء، لكن لا سبيل إلى فعل ذلك".
لم تتمكن السلطات في غزة من إحصاء الجثامين الملقاة في الشوارع
لم تتمكن الجهات الرسمية مثل مكتب الإعلام الحكومي أو وزارة الصحة في قطاع غزة من رصد أعداد الجثامين الملقاة في شوارع المنطقة المحاصرة بمدينة غزة وشمالي القطاع، وبعض أصحابها جرى تسجيلها ضمن أعداد المفقودين الذين لم يُعرَف مصيرهم، بينما أبلغ كثيرون عن حالات إعدام ميداني كانوا شهوداً عليها بحق ذويهم أو جيرانهم في المناطق التي نزحوا منها.
وأشار بيان لمكتب الإعلام الحكومي في غزة، مساء الأربعاء، إلى أن أعداد الشهداء الذين وصلت جثامينهم إلى مستشفيات القطاع منذ بداية العدوان الإسرائيلي، وصل إلى 21 ألفاً و110 فلسطينيين، من بينهم 8 آلاف و800 طفل، و6 آلاف و300 سيدة، بينما سُجِّل 7 آلاف مفقود، 70 في المائة منهم من الأطفال والنساء، فضلاً عن أكثر من 55 ألفاً و243 إصابة.
كان طبيب الصحة العامة، سعيد الحسنات، من ضمن الطواقم الطبية التي أعدت دراسات عن تأثير العدوان الإسرائيلي عام 2014 بالصحة العامة والبيئة في مناطق قطاع غزة، خصوصاً حي الشجاعية الذي شهد إحدى أكبر مجازر الاحتلال بحق سكانه، وشملت إعدامات ميدانية، وتحلل عشرات الجثث في الشوارع وتحت ركام المنازل المدمرة.
ويرى الحسنات أن "العدوان الحالي سيسبّب كارثة صحية وبيئية مؤكدة يمكن أن تؤثر في جيل من الغزيين، وسيؤدي إلى انتشار أمراض معدية، ويمكن أن يسبب أمراضاً وراثية. ينبغي أن تتدخل المنظمات الصحية بشكل عاجل للعمل على إجراءات طارئة لإنقاذ القطاع الصحي والبيئي، مع إجراء دراسات عاجلة لتقييم الأوضاع، وتوفير الحلول الممكنة لمعالجتها".
ويشرح الطبيب الفلسطيني أنه "على صعيد الواقع العملي، الجثث ليست سبباً مباشراً في انتشار الأوبئة، وهي لا تنشر الأمراض إن وجدت هيئات صحية تستطيع التعامل معها، ودفنها سريعاً، لكن الوضع القائم حالياً في القطاع خطير للغاية، فالجيش الإسرائيلي دمر القطاع الصحي، وقتل الكوادر الطبية، ويحاصر المناطق التي تنتشر فيها الجثث، والكثير منها تحللت، وبقاء الجثث ملقاة في الشارع لأكثر من شهر من دون دفن كارثة".
ويشدد على أن "الأشخاص الذين سينقلون الجثث المتحللة، عليهم ارتداء كامل الأدوات الوقائية، من أحذية وقفازات وأقنعة الوجه، واستخدام المعقمات حتى لا يكونوا عرضة لخطر الإصابة بأمراض مثل السل أو التهاب الكبد من الفئتين بي وسي، وأمراض الإسهال، وهو ما لا يمكن توفيره حالياً في ظل عدم توافر تلك المستلزمات الوقائية، ومحاولات الغزيين لرفع الجثث المتحللة من الشوارع لدفنها".
يتابع: "هناك أيضاً خطر كبير يتمثل بتلوث المياه بسبب تسرّب إفرازات الجثث إلى مصادر المياه، ما قد يسبب حالات واسعة من الإسهال، ويسهل تساقط الأمطار حالياً تسربها إلى باطن الأرض، كذلك إن الأعداد المتزايدة من الجثامين المتحللة تفاقم الأزمة البيئية، ومع غياب خدمات النظافة ورفع القمامة، قد يؤدي ذلك إلى تفشي أمراض مثل الكوليرا، وهذا ما حصل في بلاد مثل اليمن والسودان نتيجة ترك الجثث في العراء".
ويوضح الحسنات أن "مناطق مدينة غزة وشمالي القطاع، المعزولة عن المحافظات الجنوبية، تحولت إلى بيئة ناقلة للأمراض، فعدم دفن الجثامين يجذب الحشرات والقوارض، ما يتيح مجالاً أوسع للكائنات الحية المسببة للأمراض، ويسهم في نقل العدوى، وبعض النازحين الغزيين تعرضوا في الفترة الأخيرة لأمراض نتيجة انتشار انبعاثات وغازات في الهواء من الأجساد المتحللة، ما سبّب مشاكل في التنفس، وأمراضاً جلدية، فضلاً عن انتشار حالات الصدمات النفسية بين عشرات الأشخاص، من الكبار والصغار".
ويسرد الطبيب الفلسطيني تفاصيل تحلل الجثث، قائلاً إن "المرحلة الأولى تبدأ بعد الموت مباشرةً مع توقف الجهاز التنفسي والقلب عن العمل، وتوقف الدورة الدموية، وتستمر عملية التحلل بناءً على البيئة المحيطة. عادة ما تبدأ الجثامين بالتحلل في القبر بعد فترة تراوح بين أسبوعين إلى شهر، لكن في ظل وجود الجثامين في العراء، ولكونها مكشوفة، فإن ذلك يسرع انتشار البكتيريا والكائنات الحية الدقيقة، وبالتالي يمكن أن تتحلل الجثة خلال أيام معدودة".