تونس: تحدي العيش وسط النفايات

22 مارس 2022
الآثار الصحية والبيئية خطيرة (فتحي بلعيد/ فرانس برس)
+ الخط -

في محيط مكبات كبيرة للنفايات يصنع تونسيون حياتهم التي يربطون غالبية تفاصيلها بالفضلات التي تتجمّع في هذه الأماكن، ويشكلون نسيجاً اجتماعياً واقتصادياً فريداً لمحاولة تسهيل تأقلمهم مع وضع بيئي صعب يضطرون إلى العيش في كنفه لأسباب مختلفة.
تروي هاجر عريف (44 عاماً) التي ولدت ونشأت في منطقة برج شاكير التي تحتضن حالياً أكبر مكب للنفايات في إقليم تونس الكبرى والذي يمتد على مساحة 120 هكتاراً، لـ"العربي الجديد": "كانت المنطقة زراعية في الأساس، غير أنّ حياة مواطنيها تغيّرت حين قررت السلطات عام 1999 تحويل الجبل فيها إلى أكبر منطقة لتجميع وتدوير الفضلات المنزلية الخاصة بنفايات يلقيها نحو 4 ملايين مواطن". تضيف هاجر التي تعمل ممرضة في القطاع الحكومي: "لم أغادر المنطقة منذ أن أبصرت النور، وتزوجت وأقمت فيها مع عائلتي التي تضم زوجي وطفلين يقصدان مدرسة تبعد 400 متر فقط عن موقع المكب المحاط بأسوار عالية والذي تنبعث منه روائح كريهة اعتاد عليها السكان على مرّ السنوات". وتؤكد أن غالبية سكان المنطقة فقدوا حاسة الشم بنسب مختلفة، بينما يعاني العديد منهم من مشاكل في التنفس ونوبات ربو تصيب الأطفال أيضاً. وتقول: "تتكرر يومياً مشاهد دخول الشاحنات التي تنقل فضلات 4 ملايين مواطن الى المكب، وهي جزء من حياة نحو 50 ألف شخص يعيشون بين النفايات التي تحاصرهم من كلّ جنب، وتلوّث تربة منطقتهم ومياهها وهواءها". 

وتمتد آثار مكب النفايات في جبل برج شاكير الذي يبعد 8 كيلومترات عن تونس العاصمة، إلى مناطق مجاورة بينها الجيارة وسيدي حسين والعطار وبيرين. واللافت أن حكماً قضائياً صدر سابقاً بإغلاق برج شاكير بعد انتهاء المدة القانونية لاستغلاله ووضعه قيد الخدمة، لكن صعوبة إنشاء مصب بديل مددت عمره الافتراضي وكل الأنشطة المرتبطة به، وكذلك عمر معاناة المواطنين.
وفي مدينة عقارب بمحافظة صفاقس (جنوب شرق)، تحوّلت محميتها الطبيعية أيضاً إلى مكب للنفايات. ولا تختلف حياة مواطنيها كثيراً اليوم عن حياة سكان برج شاكير، فهم يدفعون من صحتهم أثماناً باهظة لاستنشاق الغازات المنبعثة من آلاف الأطنان من الفضلات المنزلية التي تحملها الشاحنات.
يقول شكري البحري الذي ينشط في حراك مدني يطالب بإغلاق مكب النفايات في عقارب لـ"العربي الجديد": "يقع أقرب تجمع سكني للمكب على مسافة لا تتجاوز 400 متر، والمواطنون مجبرون على التأقلم مع العيش بين النفايات". يضيف: "تتضمن الحياة قرب المكبات وجها خفياً لا يعرفه إلا السكان، فإضافة إلى المخاطر الصحية والبيئية على التربة والهواء، يمكن القول إن جرائم ترتكب داخل المكبات عبر إعادة استغلال وتدوير مواد منتهية الصلاحية التي تلقى في المكب. وكلّ ما تجلبه الشاحنات من نفايات يخضع لفرز ويباع مجدداً في أسواق المدينة والمدن المجاورة، وبينها المواد الغذائية المنتهية الصلاحية التي تصادرها السلطات، والتي لا تتلف".

تحوّلت محميات طبيعية إلى مكبات للنفايات (العربي الجديد)
تحوّلت محميات طبيعية إلى مكبات للنفايات (العربي الجديد)

ويشير البحري إلى أن حركة تجارية كبيرة تحيط بالمكب وتديرها شبكات منظمة توظّف "البرباشة" (أشخاص يفرزون الفضلات) الذين يجمعون ويبيعون كل ما يمكن تدويره أو إعادة عرضه في الأسواق، "ما جعلهم يحققون مكاسب مالية كبيرة على حساب أسلوب عيش المواطنين وصحتهم". ويكشف أنّ "العيش جنباً إلى جنب مع مكب للنفايات يتسبب في أمراض تتوارثها أجيال، مثل التشوّهات الخلقية للمواليد والعقم والسرطان والطفح الجلدي، في حين لا تتوفر أي رعاية صحية خاصة، أو تعويض مالي للمتضررين من الفضلات. أما الغازات التي تتسرب من تلال النفايات إلى الجو فتخلق سحباً في المنطقة تحتوي على جزيئات سامّة كثيرة بينها معادن ثقيلة، وهو ما يفسّر أيضاً انقراض الطيور والعصافير في هذه المنطقة التي كانت تصنّف سابقاً كإحدى أجمل المحميات الطبيعية في البلاد".
وتفيد الجامعة العامة للبلديات بأنّ الأعمار الافتراضية لـ6 من أصل 11 مكباً تخضع لمراقبة، انتهت، وبعضها منذ عام 2013، لكن تستخدم مؤقتاً لتجنّب تكدّس الفضلات داخل المدن. وتشير إحصاءات رسمية إلى أنّ تونس تنتج سنوياً أكثر من 2.6 مليون طن من النفايات المنزلية، يستقبلها 11 مكباً تخضع لمراقبة قانونية، وتتولى أعمالها ثلاث شركات خاصة، في حين لا تتوفر أرقام رسمية عن عدد المصبات العشوائية.

واليوم أصبحت السلطات تواجه حقيقة مع المواطنين الذين يرفضون أن تتحوّل أحياؤهم ومدنهم إلى مكبات تجبرهم على العيش عقوداً طويلة في قلب التلوّث. ويقول الخبير البيئي والأستاذ المتخصص في المناخ، زهير الحلاوي، إنّ "فكرة الاهتمام بالشأن البيئي كانت دائماً شأناً نخبوياً، لذا اعتمدت في فترة السبعينيات مقاربات اهتمت بجوانب التشغيل، ما جعل علاقة المواطنين بالبيئة منقوصة، واليوم العوائق الموجودة كثيرة ومتشعبة".

المساهمون