تهجير البريج والنصيرات... مليونا فلسطيني في 14% من مساحة غزة

29 يوليو 2024
غادر الآلاف قسراً مخيم البريج (خميس الريفي/فرانس برس)
+ الخط -

تلقى المقيمون في مخيم البريج ومخيم النصيرات وسط قطاع غزّة، صباح الأحد الماضي، رسائل صوتية مسجلة من جيش الاحتلال الإسرائيلي تطلب منهم إخلاء كامل مناطق مخيم البريج، والمنطقة الشرقية من مخيم النصيرات، لتصبح أكبر مناطق قطاع غزّة كثافة سكانية خلال الأشهر الأخيرة مطالبة بالإخلاء.
تم إخلاء مخيم البريج، وإخلاء مناطق شرق مخيم النصيرات، وكل المناطق المحيطة في شارع صلاح الدين شرقاً، والتي تضم مدارس كانت تؤوي آلاف النازحين، من بينها مدرسة خالد بن الوليد، التي وجه جيش الاحتلال تحذيراً لجميع من فيها بضرورة إخلائها، حتى المساجد التي كانت تؤوي نازحين، ومنطقة الدعوة، ومنطقة المحكمة القديمة، وشارع العشرين، وحي المصنع. 
جاءت الأوامر الإسرائيلية بعد يومين من تقليص "المناطق الآمنة" التي يروج لها الاحتلال في مناطق الغرب الجنوبي والوسط الغربي من القطاع، ووضعت سكان مخيمي النصيرات والبريج في أزمة كبيرة، فنزح غالبيتهم إلى المنطقة الغربية بمحاذاة شاطئ البحر على أمل أن يحظوا بالقليل من الأمان، بينما اتجه عدد آخر منهم إلى مدينة دير البلح، ووصل البعض إلى المنطقة الغربية التي تضم مواقع أثرية، مثل "تل القريش" المطل على البحر لعدم وجود مساحات فارغة.

مساحة "المناطق الإنسانية" في غزة حالياً هي الأصغر منذ بداية العدوان

كان نضال السويفي (55 سنة) من بين هؤلاء النازحين، وقد غادر منزله باكياً، إذ كان المنزل يضم أعداداً من النازحين تتجاوز 60 فرداً من أقاربه الفارين من المنطقة الشمالية، وكذلك أقارب نزحوا من أطراف مخيم البريج. 
كان السويفي يشاهد في أحلامه كوابيس حول نزوح قريب، وقد تحقق الكابوس، فنزح حاملاً على ظهره فراشه، وفي يده اليمنى كيساً يضم بعضاً من ملابس أطفاله، وهاتفه في يده الأخرى كي يتمكن من توجيه أسرته إلى مكان النزوح الجديد حتى لا يفقدوا أحداً في الطريق. وصلت الأسرة إلى إحدى الأراضي الزراعية الفارغة، وباتوا ليلتهم الأولى على الأرض التي يملكها صديق لهم، واستيقظوا صباحاً على أشعة الشمس الحارقة، ليتابعوا البحث عن خيمة، أو مكان إيواء في المدارس، لكنهم لم يجدوا، فعادوا مكسوري الخاطر. 
يقول السويفي لـ"العربي الجديد": "كنت أحمل فراشاً على ظهري كما لو أنني أحمل الوطن، وتذكرت لوحة (جمل المحامل) للفنان الفلسطيني سليمان منصور، وجسد فيها نزوح المواطن الفلسطيني الذي يحمل حملاً ثقيلاً يضم مدينة القدس. هذه اللوحة التي كنت أنظر إليها دائماً بتمعن كبير في مدرسة النصيرات الإعدادية حيث أعمل مدرساً للمواد الاجتماعية، وكلنا جسدنا تلك اللوحة خلال نزوحنا". يضيف: "كنت أترقب الهدنة وانتهاء الحرب، ليس في ذلك هزيمة نفسية بقدر ما هو تنازل عن الأحلام والمطالب والحقوق الإنسانية، فنحن نرغب أن يعيش الأطفال حتى يكبروا، وعندها يمكن أن يحملوا ما حملناه، المهم أن يعيشوا طفولتهم، وأثناء الخروج كنت أبكي مستذكراً كل اللحظات التي عشت فيها في المنزل الذي بنيته قبل سنوات، وكنت أضع فيه لوحات فلسطينية كثيرة أخاف عليها أكثر مما أخاف على جدران المنزل، فالحجر يمكن تعويضه، لكن هذه اللوحات التي تحمل ذكرياتي داخل منزلي سيؤدي تحطمها إلى تحطم قلبي". 

حمل النازحون بعض ما يملكون في رحلتهم الجديدة (أشرف أبو عمرة/الأناضول)
حمل النازحون بعض ما يملكون في رحلتهم الجديدة (أشرف أبو عمرة/الأناضول)

ونزح سكان مخيم البريج مجدداً، والكثيرين منهم كانوا نازحين سابقاً، وعادوا إلى المخيم أخيراً رغم سلسلة المجازر التي ارتكبت فيه، كان بعضهم حريصاً على البقاء في المدارس، أو بعيداً عن المنطقة الشرقية التي أقام فيها الاحتلال منطقة عازلة تحرسها نقاط عسكرية حتى يبقي آلياته آمنة، ومستعدة لأي توغل، كما حصل في مارس/آذار الماضي حين اجتياحه المخيم. 
عاد أحمد الخطيب (40 سنة) إلى منزله في مخيم البريج بعد عدة مرات من النزوح، رغم أنه مدمر جزئياً، وكان يحاول إبقاء إحدى غرف مدرسة إيواء في شرق مخيم النصيرات فارغة حتى ينزح إليها حال صدور أوامر إخلاء، لكن تكرار أوامر الإخلاء خلال الشهر الأخير لم يترك مكاناً فارغاً، فنزح إلى منزل أحد أقارب والدته في المنطقة، ثم غادره وصولاً إلى غرب مخيم دير البلح، وهناك تمكن من إنشاء خيمة من الأكياس والأقمشة في أحد شوارع المخيم. يقول الخطيب لـ"العربي الجديد": "أردنا النزوح بعيداً، بعد أن فقدت عدداً كبيراً من أفراد عائلتي وعائلة والدتي في مخيم البريج، إضافة إلى أصدقاء وزملاء كانوا يعملون معي في السوق، واستشهدوا في المجازر الأخيرة على مخيم النصيرات. لم نعد نشعر بالأمان في أي مكان، وكنت أخطط لهذا اليوم منذ فترة، فجمعت الكثير من أكياس النايلون الثقيلة والأقمشة لبناء خيمة، وجهزت مع زوجتي بعض الملابس، وغيرها مثل الأغراض المنزلية الأساسية". يضيف :"لا نأمل في شيء من المفاوضات، وهي تنتهي في كل مرة مع خذلان دولي وعربي، لذا كنت أجمع الأغراض والمستلزمات استعداداً لهذا اليوم، وها قد جاء وقت النزوح، من حسن حظي أنني استطعت بناء خيمة، حتى لو كانت رديئة، فالكثير من الناس باتوا في العراء". 

إخلاء مخيم البريج بالكامل (خميس الريفي/فرانس برس)
إخلاء مخيم البريج بالكامل (خميس الريفي/فرانس برس)

ويعتبر مخيم البريج ومخيم النصيرات من أكبر مخيمات وسط قطاع غزّة، وكانا يضمان قرابة 150 ألف لاجئ فلسطيني وفق آخر إحصائيات وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا" في نهاية عام 2023، وكان المخيمان من أوائل المخيمات استقبالاً للنازحين من المنطقة الشمالية كونهما الأقرب جغرافياً إلى النازحين جنوباً، ووصل عدد النازحين في المخيمين خلال الأشهر الأخيرة إلى أكثر من 350 ألف نازح، بينما مساحتهما لا تتجاوز 10.5 كيلومترات مربعة. 
ومع قرارات الإخلاء المتكررة، خصوصاً خلال الشهرين الماضيين، تقلصت أعداد النازحين، لكن عاد الكثير منهم، خصوصاً سكان المخيمين لاحقاً، وكان يتكرر ذلك كلما انسحبت مركبات وجنود الاحتلال. ويضم المخيمان 24 مدرسة تابعة لوكالة "أونروا"، وكانت جميعها ممتلئة بالنازحين، وتبقى منها 13 مدرسة فقط مخصصة للإيواء في مخيم النصيرات، تضم قرابة 100 ألف نازح. 
وبالاطلاع على خريطة قطاع غزّة المتداولة عبر منصات جيش الاحتلال الإسرائيلي بهدف استعراض "الإنجازات العسكرية"، وخلق الذعر بين فلسطينيي القطاع الذين تُوجه إليهم أوامر الإخلاء، تقلّصت "المناطق الإنسانية" إلى أصغر مساحة منذ بداية العدوان، على اعتبار أن جميع المناطق الشرقية من شارع صلاح الدين شرقي القطاع على طول كامل مساحة قطاع غزّة هي مناطق صدرت أوامر بإخلائها، ولم يتبق سوى عدد قليل للغاية من الفلسطينيين فيها. 
ولا تزال المنطقة الشمالية الممتدة من بلدة بيت حانون في أقصى الشمال الشرقي، وبلدة بيت لاهيا في أقصى الشمال الغربي، حتى حدود وادي غزّة في وسط القطاع مصنفة "منطقة قتال"، ويمنع العودة إليها، أما في أقصى الجنوب، فمدينة رفح بالكامل هي منطقة قتال خطيرة، وفي الوسط، أضيف مخيم البريج والجزء الشرقي من مخيم النصيرات إلى مناطق الإخلاء، واعتُبرا منطقة قتال. 

وأصبحت "المنطقة الآمنة" تنحصر في غرب مدينة خانيونس ما بين منطقة البلد وسط المدينة حتى الغرب الذي يشمل منطقة المواصي الممتدة على حدود مدينة دير البلح، والتي شارفت على أن تصبح المنطقة الأكثر اكتظاظاً في قطاع غزّة بعد تقليص المساحات في خانيونس وبلدة الزوايدة المجاورة.
وتجاوزت العديد من مدارس ومقار وكالة "أونروا" أضعاف قدراتها الاستيعابية، وباتت تغلق أبوابها أمام النازحين الجدد، وترفض تلقي استفساراتهم في ظل ضغوط متواصلة عليها. وأكد المفوض العام للوكالة الأممية، فيليب لازاريني، في تصريح أخير، أن "14% فقط من مناطق قطاع غزّة في الوقت الحالي ليست تحت أوامر الإخلاء. أهل غزّة ليسوا كرات أو قطع شطرنج يتم التلاعب بها، بل هم بشر. أوقفوا إطلاق النار الآن". 
ويعيش الكثير من النازحين في منطقة المواصي ومناطق غرب دير البلح حالة ترقب أن تطاولهم الهجمات الإسرائيلية، وأن يضطروا إلى الانتقال إلى مناطق جديدة يحددها جيش الاحتلال. يقول النازح إبراهيم الأطرش، من المواصي لـ"العربي الجديد": "الاحتلال يحول المناطق الآمنة إلى قطع من العذاب، وكلما حشرنا فيها، أذاقنا عذاباً أكبر مع الحرمان من الطعام والغذاء، أصبحنا نفتقد إلى أي أمل في أي شيء، نتوقع الموت في أي لحظة، ونعيش في منطقة أشبه بسجن في الصحراء".

المساهمون