تركيا: "الرعاية الأبوية" واجب الدولة

09 أكتوبر 2023
ليست فكرة دار العجزة محببة لجميع الأتراك الذين يجنحون إلى الفكر الشرقي (مراد كوكباش/Getty)
+ الخط -

 

تستمر تركيا منذ عقدين في إظهار تمسكها بسياسة "الرعاية الأبوية" للدولة من خلال برامج عدة أحدها رعاية المسنين. ولا ينحصر ذلك في إنشاء دور رعاية بل يشمل توفير رعاية نهارية ودعم منظمات تقدم خدمات لمسنين في منازلهم.

تتخوف التركية عائشة بوستان (63 عاماً) من المستقبل لأنها لم ترزق بأولاد، وتهتم حالياً بزوجها المريض الذي يكبرها في السن، في حين أن أمورها المالية جيدة بسبب حصولها مع زوجها على راتبي تقاعد، لكنها تسأل بحسرة في حديثها لـ"العربي الجديد": "من سيرعاني في المستقبل؟".

وترفض بوستان فكرة إرسال زوجها السبعيني إلى دار للمسنين، وترى أن من واجبها الوقوف إلى جانبه ورعايته، رداً على ما فعله لها خلال حياتهما معاً كما تقول، لكنها تستدرك بأن "دار العجزة الأساسية في إسطنبول ستكون خيارها الوحيد في حال توفي زوجها". 

وقدمت دار العجزة الأساسية التي تقع في منطقة آق ميداني بإسطنبول، والتي كانت افتتحت بقرار أصدره السلطان عبد الحميد الثاني عام 1896، خدمات لنحو 75 ألف شخص، وترعى حالياً نحو 600 من كبار السن والمعوقين والأطفال، علماً أنها كانت شكلت الحلّ الأمثل بعد الحرب العثمانية - الروسية (1877- 1878)، حين اضطر عشرات الآلاف الأتراك إلى الهجرة من أنحاء تركيا إلى إسطنبول، وقُدر عددهم حينها بنحو 400 ألف نازح لم يجدوا مأوى سوى الطرقات والحدائق، ما أدى إلى انتشار أمراض في صفوفهم، وزيادة عدد الأيتام، وبروز ظاهرة التسوّل التي لم تعرفها المدينة سابقاً. 

لكن هارون يلماظ (64 عاماً) يرفض مطلقاً فكرة دار العجزة، ويقول لـ"العربي الجديد": "سيتكفل أولادي بي، أو أعود إلى مسقط رأسي في البحر الأسود حيث يعيش أهلي وإخوتي". ويعتبر أن "وضع الأب في دار عجزة غير وارد في مفهوم أسرتي، خاصة أن لدي أولاداً وأرزاقاً، لكن إذا حصلت مفاجآت، وساء وضعي الصحي في المستقبل، وتخلى عني من حولي يوجد حل عودتي إلى الضيعة، علماً أنني أملك ما يحفظ كبرتي".

الصورة
نسبة النساء المسنّات أكبر من الرجال في تركيا (علي إحسان أوزتورك/ الأناضول)
نسبة النساء المسنّات أكبر من الرجال في تركيا (علي إحسان أوزتورك/ الأناضول)

وعموماً تعتبر فكرة دار العجزة غير محببة لجميع الأتراك الذين يميلون إلى الفكر الشرقي، ويرى بعضهم أن الإيواء في دور مسنين "عقوق من الأولاد وإساءة لسمعة العائلة"، لكن هذه الأفكار تتبدل تباعاً ما دفع الحكومة إلى التنبه، ومحاولة تجهيز العدة لاستيعاب مزيد من المسنين في بلد عجوز، أو يسير على هذه الخطى مع اقتراب عدد المواطنين الذين يتجاوزون سن 65 من نسبة 10 في المائة، وتنفيذ مشاريع كثيرة لتعزيز الرعاية الصحية، ما عكس أسلوباً مختلفاً في التعامل معهم يتضمن توفير حياة عزيزة "في حال تعرضوا لإذلال من الزمن"، أو واجهوا تنصل أبنائهم من الواجبات ربما بسبب تبدل الأحوال المادية، والتأثر بالنزعة إلى التعامل بواقعية مع ظروف الحياة.

وأعلنت وزيرة الأسرة والخدمات الاجتماعية التركية ماهينور أوزدمير غوكطاش أن السلطات ستفتتح 23 داراً جديدة لرعاية المسنين تستطيع استيعاب 2320 شخصاً بحلول نهاية العام الحالي.

ولأن سير تركيا بخطى حثيثة في اتجاه الدولة المسنّة، إذا لم نقل العجوز، سيزيد عدد كبار السن إلى 11 في المائة عام 2025، و13 في المائة عام 2030، وضعت وزارة الشؤون الاجتماعية العديد من الدراسات لتوسيع خدمات الرعاية المنزلية والرعاية النهارية لكبار السن، والتركيز على السياسات التي تدعم رعاية المسنين خلال وجودهم مع أسرهم، إذ تعتبر أنه من واجبها دعم كبار السن في جوانب الحياة، والتأكد من أنهم يعيشون حياة سليمة وسعيدة وآمنة وصحية ضمن البيئة الأسرية.

وتقول الباحثة التركية عائشة نور لـ"العربي الجديد": "قدمت تركيا جردة حساب في مناسبة يوم المسنين العالمي مطلع أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، وأعلنت افتتاح 18 داراً جديدة تتسع لأكثر من 1700 مسن. ويقدر عدد دور العجزة بتركيا بأكثر من 400، منها نحو 260 داراَ خاصة، وقد زادت التبرعات لهذه الدور من البلديات من خلال ميزانيات منتظمة، أو من الميسورين، لأن الخدمات التي تقدمها مكلفة ولا تنحصر في الإطعام والنظافة والمبيت، بل تشمل التأهيل النفسي للمسنين، وأيضاً تأهيل من يرغبون بممارسة مهن كي يشعروا بطعم حياتهم عبر الإنتاج والتحفيز".

وتلفت نور إلى أن "اهتمام الحكومة الحالي ينصب على انهاء مدينة لدور العجزة في منطقة أرناؤوط كوي، كي تكون رائدة على مستوى العالم من خلال السعة والرعاية، وأيضاً من خلال رعاية أطفال لا معيل لهم تتراوح أعمارهم بين 5 سنوات و18 سنة، لكنها ستكون مخصصة لمواليد مدينة إسطنبول، أو لمن يقيمون في الولاية منذ أكثر من خمس سنوات. وتتضمن خدمات عامة لتأمين موارد دائمة لا تعتمد على ميزانية الحكومة أو التبرعات فقط".

وتتحدث نور عن تسريع أعمال إنشاء مدينة ثانية للخدمات الاجتماعية للمسنين من أجل احتضان عدد كبير من الفقراء من دون النظر إلى معتقداتهم أو أصولهم أو عرقهم أو جنسهم أو عمرهم. 

ورغم تزايد اهتمامها بكبار السن لم تدخل تركيا مرحلة الدولة العجوز، كما حال اليابان أو دول أوروبية، لكن تصنيفها في المرتبة 66 عالمياً حالياً يدفع أصحاب القرار إلى تنفيذ مشاريع لإيواء كبار السن ورعايتهم بعدما تخطى عددهم 12 مليوناً، بنسبة 44.2 في المائة للرجال و55.8 في المائة للنساء.

المساهمون