تتار وعرب على موائد إفطار نيجني نوفغورود الروسية
في مبنى مجاور للمسجد الجامع الذي يبعد أمتاراً عن نهر فولغا في مدينة نيجني نوفغورود التي تقع على بعد نحو 400 كيلومتر شرق العاصمة الروسية موسكو، يجتمع عشرات من المسلمين، بينهم تتار محليون طوال أيام شهر رمضان، لتناول وجبة الإفطار معاً بعد ساعات طويلة من الصيام يزيد متاعبها واقع وجودهم في مدينة تخلو من أي مظاهر رمضانية.
يعود تاريخ افتتاح المسجد الجامع في مدينة نيجني نوفغورود إلى عام 1915، وهو واحد من المساجد الثلاثة في المدينة إلى جانب مسجد التوبة الذي افتتح بداية القرن الـ21، وقاعة صلاة في مبنى سكني بلا مئذنة أنشأها التتار قرب السوق.
ويقصد المساجد الثلاثة مغتربون كثيرون من الطاجيك والأوزبك الذين يعملون فيها، بحسب ما يوضح نائب مدير المسجد الجامع نائل إسحاقوف الذي يقول لـ"العربي الجديد": "يقدر عدد المسلمين في مقاطعة نيجني نوفغورود بـ123 ألفاً غالبيتهم تتار يتحدرون من مناطق جبال ميشارس. وعموماً، تختلف لهجات التتار بين منطقة وأخرى، فلغة تتار قازان تعتبر أكثر فصاحة، وتلك لتتار جبال ميشارس أكثر شعبية، في حين يفهم الجميع بعضهم البعض تماماً".
لكن ذلك لا يمنع إسحاقوف الذي عمل مهندساً ميكانيكياً قبل أن يلتحق بالمسجد الجامع بعدما تقاعد قبل 15 عاماً، من إبداء أسفه من تراجع إلمام الأجيال الجديدة باللغة التتارية، ويضيف: "يسير فقدان اللغة التتارية بوتيرة عالية في ضوء إغلاق مدارس خاصة بالقومية، وتراجع عدد السكان بسبب ضعف معدلات الإنجاب بين التتار رغم استقرار الأوضاع المعيشية".
ومن أجل الحفاظ على اللغة التتارية بين الأجيال الجديدة، تنظم المدرسة التابعة للمسجد الجامع دورات مجانية تفسح في المجال أمام تعلم المهتمين اللغة التتارية. كذلك يستفيد كثيرون من سفرهم خلال فصل الصيف إلى قراهم الأصلية التي ما زالت تعتمد اللغة التتارية، ما يساعد الأطفال والشبان في اكتساب اللغة من أجدادهم.
وحول مكانة رمضان بين التتار، يقول إسحاقوف: "إنه شهر الطهارة من الذنوب، ويشهد إقامة بعض الاشخاص مآدب إفطار جماعية على نفقتهم، علماً أن غالبية هؤلاء المتبرعين من أبناء الطبقة الوسطى، وليسوا أغنياء أو رجال أعمال".
وفيما يوشك الإفطار الجماعي على الانتهاء، يختمه الإمام الثاني في المسجد الجامع، راميل، بتلاوة آيات من القرآن الكريم باللغة العربية مع التجويد. وهو يتحدث لـ"العربي الجديد" عن تجربته في إتقان لغة الضاد، ويقول: "بدأت دراستي في مدينة دزيرجينسك في مقاطعة نيجني نوفغورود، وتعلمت الأحرف العربية أولاً ثم تلاوة القرآن والتجويد، وبعدها واصلت التعلم في المدرسة المحمدية بقازان، وأصبحت أتحدث اللغة العربية".
ويخبر راميل أن مائدة الإفطار في المسجد الجامع تجمع نحو 60 شخصاً يومياً، كذلك يحضر لاحقاً بين 120 و150 شخصاً صلاة التراويح".
وفيما يجذب الإفطار الجماعي في المسجد الجامع الطلاب العرب الذين يفتقدون الأجواء الرمضانية في غربتهم، يقول إسلام (28 عاماً)، وهو طالب مصري يتخصص في الصيدلة بإحدى جامعات نيجني نوفغورود، لـ"العربي الجديد": "تحتضن نيجني نوفغورود أعداداً كبيرة من المسلمين الذين يلقون معاملة طيبة من دون تمييز، لكن الطلاب العرب يشعرون هنا بغربة وببعد عن أهاليهم الذين يشتاقون إليهم، لذا يقصدون المسجد الجامع كي يتناولوا الإفطار معاً، ويعيشون بعض جوانب الأجواء الرمضانية التي تتميز بها بلدانهم العربية".
وتاريخياً، تعد نيجني نوفغورود بين المدن الروسية التي تتميز بحضور إسلامي لافت، في ظل تركز وجود التتار منذ أزمنة قديمة على ضفاف نهر فولغا التي تطل عليها قازان، عاصمة جمهورية تتارستان، وهي مركزهم الثقافي والروحي.
ويشكل التتار ثاني أكبر شعوب روسيا. وأظهر آخر تعداد للسكان أجري عام 2021 أن عدد التتار في روسيا يبلغ نحو 4.7 ملايين، لكنهم لم يسلموا على غرار الشعوب السلافية والأوروبية من تراجع معدلات الإنجاب، علماً أن عددهم بلغ نحو 5.3 ملايين في استفتاء سابق أجري عام 2010.
والإسلام هو الديانة الثانية الأكثر انتشاراً في روسيا بعد المسيحية الأرثوذكسية، ويقدّر عدد المسلمين الذين يمكثون فيها بنحو 20 مليوناً يتركز أغلبهم في جمهوريات شمال القوقاز وتتارستان وبشكيريا، إضافة إلى موسكو التي يقطنها مليونا مسلم على الأقل، بحسب تقديرات كشفها مفتي العاصمة، إلدار علاء الدينوف.
ويشير الخبير في المجلس الروسي للشؤون الدولية المستشرق كيريل سيميونوف، في حديثه لـ"العربي الجديد"، إلى أن "الديانة الإسلامية لم تترسخ حتى الآن في جميع الأقاليم الروسية التي يقطنها مسلمون، نظراً إلى تأثرها بإرث الحقبة السوفييتية، ما يزيد دور شهر رمضان في نهضة الإسلام في البلاد من خلال نشاطات تنظيم موائد إفطار جماعية وغيرها من الفعاليات التي توطّد التواصل بين المسلمين، وتلفت الأنظار إليهم كجزء خاص من الأمة الروسية الكبرى".