لم ينحصر تأثير الحياة العصرية على الإنسان فحسب، بل شمل البيوت الذي تغير طرازها المعماري الشعبي القديم. وعمد الكثير من أصحاب البيوت القديمة إلى الاستفادة منها من خلال تحويلها إلى مشاريع تجارية كمطاعم ذات أسعار مرتفعة لا تتناسب وطابع تلك البيوت القديمة، وإن كان آخرون يعتبرون أنها تعكس قيمة المكان التراثية والمعمارية.
يقول المصور الصحافي الذي يعمل على توثيق التراث الشعبي، أسامة السلوادي، لـ "العربي الجديد": "باتت غالبية البيوت القديمة تُهدم أو تتحول إلى مطاعم. وبعض أصحاب المنازل يستغلون مسألة ملكيتهم الخاصة للمنزل لتحويله إلى مطعم غير آبهين بأنهم يعبثون بالفضاء العام. ظاهرة تعدت مدينتي رام الله والبيرة، وبدأت تنسحب على القرى القريبة". ويرى أنه "يمكن تحويل البيوت القديمة إلى مزارات ثقافية أو زراعية على سبيل المثال"، متسائلاً: "لماذا نتمسّك بفكرة المطعم دون غيره؟".
يضيف السلوادي: "للأسف، نشهد محواً مُمنهجاً لتراثنا الفلسطيني في أحيائنا وبيوتنا. ونجد ألف حجة للحفاظ عليه من خلال تحويله إلى مطعم. غيّرنا الاستعمال الأساسي للبيوت القديمة بهدف الربح التجاري". ويقول إن "تغير نمط استعمال البيوت القديمة لا يساعد في الحفاظ عليها. الهدف من زيارة المطاعم هو تناول الطعام فقط وليس التعرف على أركان المكان".
مطاعم بنكهة تراثية
قبل أقل من عام، افتتح الشاب محمد أبو عواد مطعمه الخاص في مدينة البيرة في رام الله التي يعود تاريخها إلى العصر الحجري النحاسي، وقد سماه "بيت جدي" باعتبار أن المنزل كان لإحدى عائلات مدينة البيرة التي تسكن خارج فلسطين. ويؤكد أن فكرة استثمار المنزل كبير المساحة والمكون من طبقتين لا تؤثر على أصالة المكان الذي كان منزلاً في الأساس. ويوضح أبو عواد لـ "العربي الجديد": "يصل عمر المنزل إلى نحو 140 عاماً، ويحمل الرقم 38 بحسب سجلات بلدية البيرة، وقد حرصت على الحفاظ على الطراز المعماري للبيت ومحتوياته بعد تحويله إلى مطعم، منها موقد الحطب الحجري (الروزنا)".
ويؤكد أبو عواد أن جزءاً من المنزل أو المطعم بقي مسكناً لإحدى العائلات المستأجرة من العائلة المالكة، في وقت يتمتع الزوار بتفاصيل تراثية مهمة موجودة في المساحة المتبقية من المطعم. "لا أسعى إلى تغيير ملامح المنزل حتى لو صار مطعماً". وعادة ما يتجول رواد المطعم في أروقته عند الزيارة، ويطرحون الأسئلة علينا للتعرف على أسماء الشواهد المعمارية الموجودة، بحسب أبو عواد.
تشويه البيوت القديمة
يرى ناشطون أن قائمة الأسعار الباهظة في بعض الأحيان للأطباق المقدمة في البيوت القديمة والتراثية، التي تحولت إلى مطاعم، هي أحد أشكال التشويه الذي طاول البيوت القديمة، بل ونسف صبغة البساطة التي طبعت الحياة في تلك البيوت على مدى سنوات طويلة. تقول فيحاء عيسى لـ "العربي الجديد" إنها ترفض تناول طعام سعره مرتفع في البيوت القديمة التي تحولت إلى مطاعم. برأيها، هذا معارض لمفهوم البساطة الذي قام عليه البيت القديم بالأساس.
قبل سنوات عدة، هدم أحد المنازل القديمة في مدينة رام الله وسط الضفة الغربية، واختار رجل الأعمال المعروف أسامة خلف، وهو ابن إحدى العائلات الأصلية للمدينة، جمع أحجار هذا المنزل وبعض توابعه المعمارية مثل البلاط القديم، وإعادة بنائه على شكل مطعم افتتحه في نهاية شارع السهل وسط رام الله التحتا، أي البلدة القديمة لرام الله، حيث تنتشر البيوت القديمة التي تحول جزء منها إلى محال تجارية ومطاعم، منها شعبية وأُخرى حديثة، تعتمد غالبيتها النمط المعماري البسيط، أي المكون من غرف صغيرة مع علية وربما حوش (شبه حظيرة توضع فيها الدواب) وراوية (مخزن أطعمة الدواب).
يقول خلف لـ "العربي الجديد": "أؤيد تحويل البيوت القديمة إلى مطاعم، إذ يحافظ ذلك على البيوت القديمة"، لافتاً إلى أن "قائمة الطعام والشراب لدينا في المطعم لا يمكن وصفها بباهظة الثمن، ولا بد من الأخذ في الاعتبار كلفة الصيانة العالية للبيت القديم، وهي أعلى بكثير من الاعتناء بأي بيت آخر".
آراء مختلفة
من جهتها، تقول خولة العووادة، لـ"العربي الجديد": "من الطبيعي أن يكون سعر الخدمات المقدمة مرتفعاً في بعض المطاعم القديمة، إذ إن فكرة تحويلها إلى مطعم وترميمها تعني أن ثمة تكاليف مضاعفة أمام صاحب المشروع. كما أن مرتاد المطعم يعرف مسبقاً أنه أمام فرصة لاستعادة ذكريات وتخيل حياة من كانوا في البيت القديم، وهذا ما يوفره المطعم وليس أي مكان آخر. لذلك، من الطبيعي أن تكون أسعار المأكولات مضاعفة".
في المقابل، ترفض ثروت عبد العزيز، ما سبق، وتقول لـ"العربي الجديد": "إذا كانت فكرة تحويل بيوتنا إلى مشاريع تجارية ومطاعم مجدية، فلنسع إلى تحويل بيت جدتي إلى مخبز، ولنرفع سعر الرغيف فيه". أما ضحى جرار، فتقول: "لا يُعقل أن تتناول أربع قطع من الجبن المقلي بقيمة 30 شيكل (نحو 10 دولارات) لمجرد أنك تتناوله في مكان قديم"، في إشارة إلى بعض المطاعم القديمة في بلدة بيرزيت شمال رام الله، التي تتميز بطرازها المعماري.
قبل نحو عامين، افتتح الممثّل والمخرج المسرحي فادي الغول مقهى "سفر" (الاسم الفني للغول) في قلب رام الله التحتا، كمحاولة لنقل عمله الفني إلى مكان جديد والحفاظ على الطراز المعماري القديم وعدم هجره، كما يقول لـ "العربي الجديد". ويؤكد أن "فكرة تحويل جزء من البيوت القديمة إلى مقاه أو مطاعم من شأنها الحفاظ على البيوت القديمة من الهجران والخراب. وإذا ما أردنا الحفاظ على هذه البيوت، فإن ذلك يصح في دولة تتمتع بالميزانية الكافية وتحرص على حماية الثقافة والتراث، وليس هذا حال فلسطين. ويمكننا ملاحظة أن عدد البيوت التي تحول إلى مطاعم أو مشروع تجاري محدود".
رمم الغول غرفة قديمة وصغيرة وسط رام الله التحتا وحولها إلى مقهى ثقافي، واستطاع إضافة ما يُشبه "العلية" لجذب المزيد من الزوار والاستفادة منه في أنشطة مسرحية ثقافية، واستقطاب كافة فئات المجتمع وخصوصاً الشباب.
وفي ما يتعلق بالأسعار، يقول الغول: "يترتّب على المستثمر لبيت قديم نفقات عالية، الأمر الذي يحتم عليه رفع أسعار المأكولات. بالنسبة إلي، وفي ظل شح الإمكانات لدعم الفنانين المحليين، وفّر لي المقهى حياة كريمة كفنان".
راحة نفسية
لا يأبه الناشط يوسف جرادات بالكلفة التي قد يدفعها في مطعم أو مقهى قديم في مقابل الراحة النفسية التي يشعر بها خلال جلوسه في البيوت القديمة. ويقول لـ "العربي الجديد": "نشتاق لتراثنا ولا يهم السعر ما دام هناك راحة نفسية توفرها لنا هذه الأماكن".
ويشير جرادات، وهو من مرتادي المقاهي القديمة، إلى أحد مقاهي محافظة جنين الذي كان في الماضي معصرة زيتون قديمة، احتفظ صاحب المشروع الذي حولها إلى مقهى بكل معداتها القديمة، وعمل على ترميها. يضيف: "جعل صاحب المقهى المكان أجمل ما يكون، وهو من أكثر الأماكن المحببة إلى الشباب، كما أن أسعاره في متناول اليد".
من جهته، يؤكد الشاب محمد أبو عواد أنه يعتمد على أفخم الوجبات الشعبية لتقديمها في المطعم، وهي "المنسف الفلسطيني البلدي"، ويقدمه بسعر مقبول. كما يلجأ إلى أفضل الألبان البلدية لاعداد حساء "المنسف" المعروف بـ "الجميد".
لا يقبل صاحب المطعم الشهير في رام الله أسامة خلف التشكيك بحرص أصحاب المطاعم القديمة على التراث والأصالة المعمارية الفلسطينية، ويذهب لأبعد من ذلك في شرح حاله مع الأمر، ويقول لـ"العربي الجديد" باهتمام: "أنا أسكن في منزل عائلتي الذي يتجاوز عمره المائة عام في مدينة رام الله، وأحافظ عليه بصورة دقيقة قد لا تُصدق، حتى خشب النوافذ قمت بإصلاحه وإبقائه بدل استبداله بنوافذ ألومنيوم، وحافظت على الخزائن في المنزل، وعلى "الثريات" كذلك".
تناول الطعام هو الأساس
الهدف الأساس من إقبال الناس على المطاعم القديمة هو تناول الطعام، وليس التعرف على المكان من الناحية التراثية والمعمارية، كما أن تحويل البيوت التراثية إلى مطاعم ينهي شكل الحياة القديمة بصفتها مكوناً ثقافياً مهماً في تركيبة الموروث الفلسطيني في البيوت ومنها الأحواش التي تضم، بحسب المصور الصحافي وموثق التراث الشعبي أسامة السلوادي، أشجار الحمضيات واللوزيات وأحواض النباتات العطرية، وهذا ما يميز البيت الفلسطيني القديم.
ويقول السلوادي إن "تحويل البيت إلى مطعم يهدم النمط المعماري والاجتماعي والاقتصادي لأحياء بأكملها، وكلها تمثل نمطاً كاملاً من أنماط الحياة الفلسطينية الأصيلة، فالبيت الفلسطيني القديم ليس وحدة منفصلة عن محيطه".
الدور الرسمي
تتمتع اللجان المحلية بصلاحية رفع أنظمة الحماية للمباني القديمة، وفق ما تقول مديرة قسم الأبنية في بلدية رام الله ديما عرسان لـ"العربي الجديد"، مشيرة إلى أنه "من الضوابط المتبعة من قبل البلدية عند تحويل البيوت إلى أماكن حرف تقليدية منها مطاعم، عدم تشكيل ضرر فيزيائي أو إنشائي على جسم المبنى. وفي كل الأحوال لا مانع من منح ترخيص لصاحب البيت لتحويله إلى منشأة أو حرفة".
وتسعى بلدية رام الله، بحسب عرسان، إلى العمل في الفترة المقبلة على تثبيت مكونات البيت حتى في حال تحويله إلى مطعم، منها الأبواب والإشارات القديمة (اللوحات التعريفية)، بالإضافة إلى دراسة مقترح تثبيت نبذة عن تاريخ العائلة التي كانت تسكن المنزل القديم على شكل "بطاقة تعريفية" بحسب معايير منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونسكو).