في منزل بسيط في حي الشجاعية شُيّد خلال ثمانينيات القرن الماضي، يعيش محمود مشتهى (21 عاماً) في جو عائلي يعدّ مألوفاً لدى العائلات الفلسطينية، وخصوصاً لإعداد حلوى الأعياد والمناسبات السعيدة. داخل هذا البيت، يساند الأب والأم ابنهما لإنجاح مشروعه الذي أطلقه ويصنع البسكويت من خلاله ويبيعه بدلاً من البقاء في المنزل من دون عمل.
تخرّج محمود من جامعة الأزهر وتخصّص في البرمجيات وقواعد البيانات (أحد تخصصات قسم الحاسوب في كلية الدراسات المتوسطة في الأزهر)، وكان الأول على دفعته وحصل على درجة امتياز. وبحسب النظام الجامعي، يجب على الجامعة تعيينه معيداً بعقد لمدة عام كامل. إلا أن هذا الأمر لم يحصل على مدار أكثر من عام، على الرغم من الوعود، وقد حاول الاستفسار من دون نتيجة.
كان محمود يعمل ويدرس في آن واحد. وفي عام 2015، بدأ العمل في أحد مصانع البوظة المعروفة في قطاع غزة، وتحديداً في قسم المبيعات وقسم التعبئة، وتعلّم صنع البوظة أيضاً. في الوقت نفسه، أكمل تعليمه، وكان متفوقاً. لكن قبل أربعة أشهر، توقف عن العمل بسبب تأثير تفشي فيروس كورونا على الوضع الاقتصادي، وقلة البيع والإنتاج.
خجل
كان والده يعمل في مكتب للنقليات، إلا أنه توقف عن العمل قبل عام. وفي أحد الأيام، أعدّ البسكويت مع عائلته، علماً أنه يختلف عمّا هو موجود في السوق، أو كما تعده عائلات أخرى. وبدأ ينشر صوراً عبر تطبيق "سنابشات"، وكانت ردود فعل الأصدقاء إيجابية، بل بدأوا يستفسرون منه عن مكوناته. كذلك حضر البعض إلى منزله وتذوقوه وأخبروه بأنه طيّب المذاق، وشجعوه على بدء مشروعه، لأن نكهته مميزة.
يقول محمود لـ "العربي الجديد": "أنا خجول بطبعي. في البداية لم أتقبل الأمر، إذ يفترض بي أن أعمل في مجال البرمجة. إلا أن خالاتي شجعنني. ثمّ طرحت الأمر على أسرتي. وبما أنه ما من مصدر دخل للعائلة، انطلقنا بالمشروع، وصنع البسكويت. وكانت الطلبية الأولى لخالاتي وقد طلبن 7 كيلوغرامات من البسكويت". ثم أنشأ في وقت لاحق صفحة على كل من "انستغرام" و"فيسبوك" لترويج البسكويت.
تذوّق
يصنع محمود البسكويت بجوز الهند واليانسون والزعتر والقرفة والتمر، وينشر صور ما يصنعه يومياً. ويأتي إليه البعض بهدف التذوق، ثم يطلبون منه شراء البسكويت. وعرض ما يصنعه في أكبر متجر في حي الشجاعية، وكان هناك إقبال عليه.
لدى محمود ثلاثة أشقاء. تخرّج واحد منهم هذا العام بدرجة امتياز، وتخصّص في الهندسة الكهربائية. وينتظر شقيقه تعيينه معيداً. إلا أنه وأصدقاءه العاطلين من العمل، كمثل حاله، يجمعون بعضهم طوال الوقت ويحاولون تناسي همومهم.
عاد الأمل إلى محمود أخيراً بعدما أطلق مشروعه، ويسعى إلى انتشار أكبر على مواقع التواصل الاجتماعي، وخصوصاً أن أهالي غزة يتابعون مواقع التواصل الاجتماعي كثيراً. مع ذلك، لم يحظ بدعم أصحاب الحسابات الأكثر متابعة في قطاع غزة، باستثناء ناشطتين.
يعمل محمود بحسب جدول الكهرباء في قطاع غزة، إذ تتوافر 8 ساعات وتنقطع 8 ساعات. لكن في بعض الأحيان، يضطر إلى العمل رغم انقطاع التيار الكهربائي لتسليم بعض الطلبيات والتزامه مع أصحابها، وذلك على ضوء البطاريات، رغم إنارة البطاريات الضعيفة بالمقارنة مع ضوء الكهرباء.
يقول محمود إن البسكويت يحتاج إلى دقة كبيرة ووقت وجهد. "أعتمد على أدوات بسيطة ويدوية، حتى إنني صمّمتُ قطعاً من القصدير لصناعة أشكال متنوعة من البسكويت غير موجودة في السوق". يلفت إلى أن البسكويت يحتاج إلى متابعة في الفرن للانتباه إلى القطع التي تنضج أولاً بأول، والانتباه لتحريكها في الصينية بحسب الحاجة. يشرح: "نتبادل الأدوار في العائلة لمراقبة حرارة الفرن".
يأمل محمود أن يكبر مشروعه في يوم من الأيام، وأن يُقبل كثيرون عليه. ويرغب في صناعة المزيد من البسكويت، وشراء بعض الماكينات الكهربائية التي تسهل عمله وتوفّر عليه الجهد. في الوقت الحاضر، يعمل بجد ويساعد عائلته. في الوقت نفسه، يسعى إلى إيجاد عمل في مجاله، من دون إهمال مشروعه. لكنه لا يخفي غصة في داخله لأنه اجتهد في سنوات دراسته، وتنافس مع كثيرين وحاول إنجاز مشروع تخرجه بشكل متقن، ومع ذلك لم يعيَّن معيداً. ورغم كل ما مرّ به، يرفض الاستسلام، وسيبقى مثابراً لإيجاد عمل وتطوير خبراته في مجال تخصصه الذي أحبه.