تكتسي ذكرى المولد النبوي في المغرب مكانة ورمزية خاصة، رسمياً وشعبياً، وتتميز بطقوسها وعاداتها المتنوعة والفريدة التي تمتد تاريخياً من عهد المرينيين إلى العلويين.
وتبدأ الاستعدادات للمناسبة بأسابيع، حيث تنظف البيوت والمساجد والزوايا، وتُجهز النسوة الحلويات والكعك لاستقبال الضيوف، كما تشهد الأسواق حركية ورواجاً من أجل اقتناء الملابس التقليدية للأطفال، بالإضافة إلى مستلزمات الأطباق الأصيلة التي تُزيّن المائدة، دون إغفال البخور والطيب ليكتمل مشهد تصدح فيه المدائح النبوية بأحلى الترانيم.
"سيد الميلود"
يُطلق المغاربة على هذه المناسبة اسم "العيد" لدلالته على الاحتفال والفرحة، كما يسمونه محليا "سيد الميلود" تعظيماً لذكرى مولد الرسول محمد. فيلبسون أبهى الثياب، ويُقدّمون أشهى الطعام، ويتزاورون فيما بينهم، وتلهج الألسن بالذكر والمديح.
وتتميز ليلة المولد (11 ربيع الأول) بحفلات دينية، تبدأ بتلاوة القرآن الكريم ثم إنشاد القصائد النبوية، وأشهرها "البردة" و"الهمزية" و"المنفرجة" إحياءً لذكرى الرسول، فضلا عن التذكير بالصفات النبوية. وفي صبيحة 12 من ربيع الأول، تنطلق الاحتفالات في عددٍ من المدن والقرى المغربية، وتسير مواكب الشموع بطقوسها وأهازيجها، وتقام حفلات ختان الأطفال، كما يحرص المغاربة على صلة الرحم، وتبادل التهاني والتبريكات، وترديد الصلاة على النبي، بالإضافة إلى تقاسم أطباق الحلويات بين الجيران، وتقديم "العيدية" للصغار الذين يتقافزون فرحاً بملابسهم الجديدة.
متى احتفل المغاربة بالمولد؟
هشام الأحرش، الباحث في التاريخ والحضارة المغربية، يقول لـ"العربي الجديد"، إن الاحتفالات بذكرى المولد النبوي بدأت منذ المرينيين، وبالضبط سنة 1250 ميلادية، التي كانت أول سنة يحتفل فيها المغاربة بالمناسبة في عهد الخليفة الموحدي المرتضى (1248–1266 ميلادية)، واكتست طابعها الخاص على عهد السلطان المريني أبي الحسن وأبنائه. و"قد ذكرت المصادر التاريخية أن السلطان دأب على أن يقيم ليلة المولد حضراً وسفراً، ويستعد بألوان الطعام والحلويات، وأنواع الطيب والبخور، مع إظهار الزينة والتأنق في إعداد المجالس، حتى إذا حلت ليلة المولد، وأدى صلاة المغرب ونافلتها، قصد إلى مجلسه في مكان الاحتفال، حيث يستدعي الناس للجلوس، ثم يقدم الطعام على ترتيب مخصوص، يتلوه من الفواكه الطرية ما يوجد في إبانه ثم اليابسة والكعك والحلويات…".
ويوضح الباحث أن "الاحتفالات تطورت مع السعديين، بإضافة موكب الشموع الذي كان ينطلق من مراكش إلى سلا، وما زال إلى الآن تقليداً سنوياً. وقد أفاد مؤرخو الدولة السعدية أنه كان ينطلق من قصر الخلافة وصولا إلى ضريح السلطان محمد الشيخ السعدي والد أحمد المنصور الذهبي"، ووصفوا تلك الشموع بأنها "أعظم من الأسطوانات يطاف بها في البلد، ومعها الآلات والناس يشاهدونها، إلى أن ينتهي الموكب بليلة المديح والسماع في قصر البديع".
وواكب هذه الطقوس، وفقاً للباحث الأحرش، تنظيم حفلات ختان للأطفال، و"إيلاء عناية خاصة بهم واقتناء الملابس لهم، ثم بقيت هذه السنة حاضرة في عهد الدولة العلوية، مع كل ما يميزها من مظاهر احتفالية، واستحضار شمائل ومكارم النبي وسيرته".
ويشير الباحث ذاته إلى أن "المغاربة دأبوا على الاحتفاء بهذه المناسبة وكأننا أمام "عيد فطر ثان"، تتعطل فيه الإدارات والمؤسسات استحضاراً لرمزية الذكرى وقيمتها الدينية والروحية والاجتماعية".
"العصيدة" عروس موائد المولد
تُشكل ذكرى المولد النبوي فرصة كبيرة للقاء العائلات والأصدقاء وصلة الرحم، وتبادل الكعك والحلويات، فضلا عن إعداد أطباق خاصة بالمناسبة، وتوزيع العيدية على الأطفال.
غيثة، مغربية في الخمسينيات من مدينة فاس، تقول لـ"العربي الجديد" إنها ما زالت تحتفظ بذكرياتها الجميلة المرتبطة بهذه المناسبة، "حيث تتعالى الأناشيد من الزوايا والمساجد، وتسمع زغاريد النساء والصلاة على خير الأنام".
وتتابع المواطنة المغربية أنها ما زالت متشبثة بكل الطقوس المتوارثة، حيث تستيقظ صبيحة المولد باكراً، تُجهز صالة الضيوف وتعطرها بالبخور، ثم تعد طبق "العصيدة" المكون من دقيق القمح والحليب والمزين بالسمن والعسل، بالإضافة إلى صينية الحلويات التقليدية والعصرية، والرغائف، وترتدي "قفطانها" استعداداً لمعايدة أهل بيتها واستقبال ضيوفها في أبهى حلة.
وتضيف: "إنه يوم فرح، نتبادل التهاني والتبريكات ونحرص على إدخال الفرحة على قلوب الصغار من خلال منحهم نقودا وهدايا وحلوى، ثم نبدأ في تحضير وجبة الغداء، وهي عبارة عن طبق الديك الرومي أو الدجاج البلدي مرفوقاً بالقرعة (اليقطين) المعسلة، وسط أجواء من البهجة ولمة العائلة".
بدورها، توضح رقية، الثلاثينية التي تنحدر من إحدى القبائل الأمازيغية، أن ما يميز احتفالهم بالمولد النبوي، والذي يطلق عليه "سيد الميلود"، إعداد وجبة بركوكش بالقمح والدقيق يتوسطه إناء عسل أو "أملو"، وهو خليط زيت الأركان واللوز، بالإضافة إلى ترديد بعض الأناشيد، ومنها: "سيد الميلود زايد اليوم، الشرفا ركبوا العلوم، سيد الميلود أوريدا سعيدة، جيت نزورك جات لي مكة بعيدة".
أما محمد، شاب مغربي من مدينة أرفود جنوب المغرب، فترتبط ذكرى المولد النبوي في ذاكرته بسنوات طفولته، ويحكي لـ"العربي الجديد" أنه كان يلعب بـ"الفرواط" رفقة أقرانه، وهي لعبة تقليدية بسيطة تصنع من القصب والأوراق الملونة، وتوضع في قصبة طويلة ويجري بها بين الدروب، وهو يردد "فراوطي فرواط النبي لالة مينة ولدتو وحليمة رباتو، طلع النور على قبتو وعلى عبادو".
يُذكر أن الاحتفالات بذكرى المولد النبوي تأتي هذه السنة وسط أجواء يلملم فيها المغرب جراحه من زلزال 8 سبتمبر/ أيلول، ويتجدد معها جدل الاحتفال بين معارض لهذه المظاهر باعتبارها "بدعة"، ومؤيد لا يرى حرجاً في إحياء سنة تقوية محبة الرسول، وتعظيمه في النفوس، وزيادة معرفته في العقول، واستحضار شخصيته في الأذهان.