"المنطقة الآمنة" في غزة... أضيق منطقة سكنية في تاريخ البشرية

22 اغسطس 2024
هجروا من خانيونس إلى دير البلح (أشرف أبو عمرة/ الأناضول)
+ الخط -

عمد الاحتلال الإسرائيلي إلى تقليص ما أسماها "المنطقة الآمنة" في قطاع غزة على مراحل، وذلك منذ بدء عدوانه على القطاع، لتصل إلى أقل من 10% بعدما كانت تقع على مساحة تقدر بـ 63%.

أعلن الاحتلال الإسرائيلي، مساء أمس الأربعاء، عن إخلاء جديد وسط مدينة دير البلح، الواقعة في وسط قطاع غزة، على مقربة من شارع صلاح الدين الحدودي، بعدما أصبحت المدينة الأكثر اكتظاظاً نتيجة تقليص "المنطقة الآمنة" التي يدعيها الاحتلال. بذلك، وصلت "المنطقة الآمنة" لأقل من 10% من مساحة قطاع غزة الإجمالية، التي كانت قبل السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي 360 كيلومتراً مربعاً. 
وأعلن المكتب الإعلامي الحكومي، بعد تهديد أجزاء من مدينة دير البلح، أن الاحتلال ما بعد منتصف أغسطس/ آب الجاري، قلص المنطقة التي يدعي أنها إنسانية وآمنة إلى 36 كيلومتراً مربعاً، أي ما يقدر بأقل من 10% (9.5% تحديداً) من إجمالي مساحة القطاع العامة، وتشمل أراضي زراعية، ومقابر، ومراكز خدماتية وتجارية واقتصادية، وشوارع.

تسلسل التقليص 

بدأت التهديدات الإسرائيلية في 21 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، عندما ألقى الاحتلال منشورات تأمر سكان منطقة شمال وادي غزة بالإخلاء وتهددهم بالمخاطر المحدقة بهم في حال البقاء. ومطلع نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، زعم أنه خصّص المنطقة الجنوبية منطقة إنسانية آمنة، وبلغت مساحتها آنذاك 230 كيلومتراً مربعاً. 
كانت "المنطقة الآمنة" تقع على مساحة 63% من إجمالي مساحة قطاع غزة، وهي عبارة عن أراض زراعية، ومراكز خدماتية وتجارية واقتصادية، وتشمل حدود مخيم النصيرات شمال غربي القطاع حتى معبر رفح البري جنوباً وشرقاً حتى شارع صلاح الدين. ومطلع ديسمبر/ كانون الأول الماضي، بدأ الاحتلال الإسرائيلي تنفيذ سياسة جديدة في القطاع، وتحديداً بعد انقضاء فترة الهدنة التي استمرت أسبوعاً (من 24 نوفمبر/ تشرين الثاني وحتى الأول من ديسمبر/ كانون الأول الماضيين). 
وأعلن الاحتلال الإسرائيلي حينها مدينة خانيونس منطقة قتال، وقصف المنطقة الغربية الشمالية، ودمر مدينة حمد فيها، وارتكب العديد من المجازر. وقلّص "المنطقة الآمنة" بعد اجتياح خانيونس لتصل إلى 140 كيلومتراً مربعاً بما نسبته 38.3% من إجمالي مساحة قطاع غزة، وتشمل مرافق وطرقات وأراضي زراعية ومقابر ومنشآت اقتصادية قليلة.

في ذلك الوقت، كانت "المنطقة الآمنة" تضم مدينة رفح بالكامل ووسط قطاع غزة بمخيماته الأربعة البريج ودير البلح والنصيرات والمغازي. وكان الغزيون يعيشون ظروفاً صعبة، وعمد الاحتلال إلى استهداف النازحين وعرباتهم، وجرى توثيق عدد من الانتهاكات بحق النازحين إضافة إلى الاعتقالات.  
في بداية إبريل/ نيسان الماضي، انسحب الاحتلال الإسرائيلي من مدينة خانيونس، ولم يعلن عن تغيير في خريطة "المنطقة الآمنة" رغم عودة أهالي مدينة خانيونس والمهجرين إلى حيثما كانوا في الخيام قبل العملية العسكرية. لكن استمرت التهديدات بعملية برية على مدينة رفح التي كانت الأكثر اكتظاظاً حينها، وكانت تشهد قصفاً على مناطق تجمعات المهجرين، وعمليات عسكرية استهدفت سيارات ومناطق محاذية للمعبر حينها.
وفي السادس من مايو/ أيار الماضي، أعلن الاحتلال الإسرائيلي بدء العملية العسكرية في رفح، ليحتل معبر رفح البري، واستمر في تقليص المساحة الآمنة حتى وصلت إلى 79 كيلومتراً مربعاً، بما نسبته 20% من إجمالي مساحة القطاع، وتشمل غرب مدينة خانيونس حتى وسطها، مروراً بحدود مخيم النصيرات شمالاً، وحتى شرق شارع صلاح الدين، الفاصل مع المنطقة الشرقية.
واستمر القصف الإسرائيلي على المناطق الآمنة في منطقة المواصي التي شهدت توسعاً حتى منتصف يونيو/ حزيران الماضي، ليعلن تقليص "المنطقة الآمنة" إلى 60 كيلومتراً مربعاً، بما نسبته 16.4% من إجمالي مساحة القطاع، مقتطعاً المناطق الشرقية بالكامل عن الخريطة. وفي منتصف شهر يوليو/ تموز الماضي، قلصها إلى 48 كيلومتراً مربعاً، أي ما نسبته 13.15% من إجمالي مساحة قطاع غزة.

قليل من الراحة خلال رحلة التهجير (بشار طالب/ فرانس برس)
قليل من الراحة خلال رحلة التهجير هذه (بشار طالب/ فرانس برس)

ومطلع أغسطس/ آب الحالي، قلص الاحتلال مجدداً المنطقة التي يدعي أنها منطقة إنسانية آمنة إلى 40 كيلومتراً مربعاً فقط، بما نسبته 10.9% من إجمالي مساحة قطاع غزة وذلك حتى أمس الأربعاء، حين أفرغ مناطق جديدة من مدينة دير البلح، لتصبح "المنطقة الآمنة" أقل من 10%، بمساحة أقل من 36 كيلومتراً مربعاً.
وتشمل "المنطقة الآمنة" الحالية غرب دير البلح، بدءاً من غرب شارع صلاح الدين وأحياء وسط المدينة وحتى شاطئ البحر، وصولاً إلى مناطق من مخيم النصيرات (مخيم 2)، ووسط الشارع العام منه، وصولاً إلى غرب مدينة خانيونس ومنطقة المواصي. كما تشمل حدود وسط مدينة خانيونس حتى حدود المواصي مع رفح.  
في هذا السياق، يوضح مدير المكتب الإعلامي الحكومي في غزة، إسماعيل الثوابتة، أن الاحتلال يحاول شد الخناق أكثر على المهجرين والقاطنين في "المنطقة الآمنة" حالياً، وسط سلسلة من انتهاكات مقصودة تتعلق بحقوقهم الأساسية الإنسانية. ويوجد قرابة مليون و700 ألف من سكان غزة في المنطقة التي لا تتجاوز مساحتها الـ 10% من إجمالي مساحة القطاع (الباقون يتوزعون في شمال غزة وفي المناطق التي صنفها الاحتلال مناطق قتال).
ويقول الثوابتة لـ"العربي الجديد": "كان الغزيون يتوجهون إلى المناطق التي يدعي الاحتلال أنها آمنة للبحث عن مصادر للعيش، إذ كانت تضم أراضي زراعية قليلة، وغيرها من المراكز الخدماتية. لكن الاحتلال دمرها بشكلٍ متعمد في إطار سياسة التجويع. وكان يختلق مبررات لإزالة مستلزمات الحياة، منها تدمير مصادر المياه وأنابيب نقلها إلى المنازل".

مهجرون يصلون إلى دير البلح... الأكثر اكتظاظاً (أشرف أبو عمرة/ الأناضول)
مهجرون يصلون إلى دير البلح... الأكثر اكتظاظاً (أشرف أبو عمرة/ الأناضول)

يضيف: "المنطقة الإنسانية الحالية مهترئة، وهي في معظمها مناطق غير صالحة للمعيشة، ومنها عبارة عن سواتر رملية تجري إصلاحات فيها. ولم تجر الاستجابة للمناشدات، جراء تفاقم الوضع الإنساني، سواء من قبل لجنة الطوارئ في قطاع غزة، أو المكتب الإعلامي الحكومي، والمنظمات الدولية. العالم صامت أمام تلك الجرائم، وسكان غزة الآن محشورون في أضيق منطقة سكنية في تاريخ البشرية أمام مرأى العالم". 
إلى ذلك، يقول مصدر في وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، إنّ تقليص "المنطقة الآمنة" يؤدي إلى كارثة إنسانية، في ظل العجز المستمر في كيفية تنقّل طواقم عمل الأونروا والمدنيين وتحديد نقاط توزيع المساعدات، واستمرار الخدمة الطبية، ما يهدد عملهم. يضاف إلى ما سبق المخاطر التي تهدد موظفي الوكالة، وقد استشهد 207 من موظفيها منذ بدء العدوان. 
يتابع في حديثه لـ"العربي الجديد": "تراقب إدارة الوكالة الخرائط الإسرائيلية على مدار الساعة، لحماية طواقمها من الوجود بالمناطق المصنفة غير آمنة. والمؤسف أن عدداً من المدنيين لا يتركون تلك المناطق بسرعة، وقد اضطر البعض إلى البقاء فيها لعدم وجود مساحات وصعوبة التنقل، حيث تغيب المساعدات والرعاية الصحية وغير ذلك". 

تهجير متكرر

لا يثق الغزيون بالمناطق الآمنة، إذ إن الاحتلال الإسرائيلي عمد إلى قصفها مراراً، وخصوصاً منطقة المواصي، حيث ارتكب العديد من المجازر. كما قصف مدينة رفح خلال شهري فبراير/ شباط ومارس/ آذار، قبل أن تبدأ العملية العسكرية في 6 مايو/ أيار الماضي.
ومؤخراً، نزحت عائلات كثيرة ضمن "المنطقة الآمنة"، جراء ملاحقة الاحتلال الإسرائيلي لها في عدد من المناطق، على غرار محمد شبير. الأخير نزح وأسرته ثلاث مرات خلال الأسبوعين الماضيين من مدينة خانيونس إلى مدينة دير البلح، حيث يعيش في خيمة كبيرة تضم 20 فرداً. يقول لـ"العربي الجديد": "خلال الأسبوعين الماضيين، تنقلنا في مناطق عدة. بقينا في المنطقة الأولى يومين، ثم أُخبرنا بوجوب الإخلاء، فانتقلنا إلى منطقة أخرى بقينا فيها ثلاثة أيام. ومجدداً، أخبرنا بوجوب الإخلاء بسرعة فتوجهنا إلى مدينة دير البلح. لا نستطيع التنفس، ولا توجد أية مساحات. نحن نعيش حياة مذلة ونتنقل من مكان إلى آخر. أصبحنا ننتظر الموت في أي مكان من المنطقة الآمنة، كونها المنطقة الأخطر في نظرنا".
ويرغب البعض بالخروج من "المنطقة الآمنة" لاعتقادهم أن الهدف منها تعذيب الغزيين، بحسب مجدي حميد. ويقول لـ"العربي الجديد": "أشعر بالندم لأنني خرجت من مخيم جباليا منذ بدء العدوان. عشت تهجيراً متكرراً، ربما لأكثر من 15 مرة. وخلال الأسابيع الثلاثة الأخيرة، نزحت أربع مرات. هنا موت وفي المنطقة الشمالية موت. المنطقة الآمنة هي سجن إسرائيلي لتعذيبنا وقتلنا".