يعبر الصينيون حين يكررون مقولة "إذا أردت أن تعيش في هذه البلاد، إياك أن تمرض أو تموت" عن هاجس الموت في ثقافتهم. لكن الأطباء يؤكدون أن الخوف من المرض يتحوّل إلى رُهاب وهاجس دائمين، بدليل طوابير المراجعين.
يقول الطبيب تسانغ وي، الذي يملك عيادة خاصة في العاصمة بكين، لـ"العربي الجديد": "أستقبل يومياً حوالى 50 شخصاً يتوهمون أنهم مرضى. والحقيقة أن أكثر من 35 في المائة من إيرادات الكشوفات اليومية في العيادات الخاصة تأتي ممن يعانون من رُهاب المرض".
ورغم أن عدداً من الخبراء يعزو ذلك إلى أسباب عدة، منها التقدم في السن وانتشار الأمراض المعدية وفطرة الصيني الذي يخشى الموت، يرى تسانغ أن "تكاليف العلاج الباهظة في الصين أحد أسباب الظاهرة، نظراً إلى خوف الناس الشديد من الوقوع في شرك المرض، وما يترتب عنه من مصاريف لا سقف لها".
ويتابع: "يرفض مراجعون أحياناً نتائج الكشوفات الطبية التي تظهر تمتعهم بعافية كاملة وخلو أجسامهم من الأمراض، ويطالبون بإعادتها لشعورهم بأنهم يعانون من شيء ما. ويذهب البعض إلى التشكيك في كفاءة الأطباء، ويدخلون في سجال ويشتبكون لفظياً معهم، بينما يقضي آخرون أوقاتهم في التردد والتنقل بين مستشفى وآخر للحصول على نتيجة تهدئ من روعهم".
ويعتبر الصينيون أكثر شعوب العالم إنفاقاً على الكشوفات الطبية. ويظهر استطلاع للرأي، أجرته مؤسسة بحوث على موقع ويبو (المعادل الصيني لموقع تويتر)، أن 76 في المائة من المستفتين يجرون كشفاً طبياً شاملاً مرة كل ستة أشهر، و22 في المائة كشفاً كل عام، و2 في المائة لا يجرون أي فحوص.
كذلك أظهرت دراسة حديثة أجراها مركز "تيان آن" للبحوث الطبية أن نحو 65 في المائة من الأسر ذات الدخل المنخفض غير قادرة على شراء الأدوية التي لا يغطي التأمين الصحي تكاليفها، وأن 24 في المائة منها تلجأ إلى الطب الصيني التقليدي بدلاً من الذهاب إلى المستشفيات لتجنب تكاليف العلاج الباهظة.
يقول قوان لي تشون (76 عاماً) الذي يتردد منذ أن أجرى عملية زراعة كلية، قبل نحو عشرة أعوام، على عيادات طبية كل ثلاثة أشهر لإجراء كشف طبي شامل، لـ"العربي الجديد": "أهملت صحتي في السابق، فدفعت الثمن عبر تضرر عضو في جسدي. لو اكتشفت أمر عدم انتظام وظائف الكلى مبكراً، لما اضطررت إلى الخضوع لعملية بعت أرضاً أملكها لإجرائها، لأن تأميني الصحي لا يغطي هذا النوع من المرض". ويشدد على "ضرورة إجراء الفحوص الطبية دورياً، لأن معظم الأمراض المزمنة يمكن علاجها إذا شخصت مبكراً، علماً أن تجربتي شكلت درساً لأفراد عائلتي الذين يلتزمون مثلي بإجراء فحوص طبية مرة واحدة كل ستة أشهر على الأقل".
ويعاني صينيون كثيرون من تعقيدات نظام الضمان الاجتماعي في بلدهم. وحسب لوائح النظام، لا يحق للمواطن التمتع بميزات الضمان الاجتماعي إلا في مسقط رأسه، في حين تحتم طبيعة الحياة الصناعية سفر العمال والموظفين إلى المدن الصناعية الكبرى بحثاً عن فرص عمل، ما يجعلهم يتحملون على نفقتهم الخاصة تكاليف العلاج في حال مرضهم، ويستمرون في العيش في خوف دائم من الإصابة بالأمراض، خصوصاً تلك المعدية.
حول هذا الرُهاب، يوضح الباحث الصيني جياو لونغ لـ"العربي الجديد" أن "الخشية من الموت في الثقافة الصينية ذات تأثير كبير على اندفاع المواطنين نحو المبالغة بالاهتمام بصحتهم وبتدابير الاطمئنان على نفسهم، والذي يترجم في طوابير من المراجعين أمام بوابات المستشفيات والعيادات الخاصة. ومن يشطب الرقم 4 من قائمة الأرقام لأن لفظه يتوافق مع لفظ كلمة سي، التي تعني الموت باللغة الصينية، مستعد لفعل أي شيء من أجل الحفاظ على حياته".
يضيف: "يظل الموت أمراً مبهماً في الثقافة التقليدية الصينية، فهو لا يقترن بحياة أخرى، بل ينتمي إلى عالم يحتوي أرواحاً شريرة وأشباحاً تهدد صحة الأحياء وأرزاقهم. من هنا، تشهد مراسم الدفن على سبيل المثال طقوساً غريبة، مثل: حرق ملابس الميت، والنقود الورقية، وتغطية المرايا بشراشف بيضاء، وأمور أخرى تهدف إلى تحصين الأحياء من مطاردة الأرواح الهائمة في المكان".
ويشير جياو لونغ إلى أن "رُهاب المرض لا يقل فتكاً بحياة الإنسان من المرض نفسه، بسبب انعكاساته الصحية السلبية. فالتردد على المستشفيات باستمرار يعرّض الشخص للإصابة بأمراض معدية، خصوصاً في ظل جائحة كورونا. كما أن هاجس المرض لا يختلف كثيراً عن التمارض على صعيد الأعراض والتداعيات. فالشخص المتوهم كثير الشكوى لا يثق بنفسه وبالآخرين، وهذا في حدّ ذاته نوع من أنواع الأمراض النفسية". كما يتطرق جياو لونغ إلى التكاليف التي يتكبدها المراجعون في كل مرة، والتي تستنزف الجيوب.
وخلال السنوات الماضية، دأبت الصين على استخدام الذكاء الاصطناعي لتشخيص الأمراض، خصوصاً تلك المزمنة، من أجل الحصول على نتائج دقيقة. كما استخدمت مستشفيات روبوتات لإجراء فحوص طبية دورية من أجل تقليل تكاليف الكشوفات الباهظة وتحسين خدمات الرعاية الصحية.