أظهرت دراسة حديثة صادرة عن مركز الإحصاء الوطني في الصين أنّ 70 في المائة من النساء المتعلمات اللواتي استُطلعت آراؤهنّ، لا يرغبنَ في الإنجاب.
وقد أثارت هذه النسبة نقاشات ساخنة على مواقع التواصل الاجتماعي، حول دور التعليم في جعل المرأة أكثر تمرّداً على التقاليد الاجتماعية، وتداعيات ذلك على خصوبة المجتمع بسبب تفضيل العمل ونمط التحرّر على فكرة الأسرة والاقتران بزوج.
وعزا مراقبون هذا التوجّه إلى تحوّل الصين بشكل أو بآخر من النظام الاشتراكي إلى النظام الرأسمالي وتراجع المجتمع عن القيم الشيوعية.
وقد أجرى هؤلاء مقاربة ما بين وضع المرأة في خمسينيات القرن الماضي وستينياته، في أثناء حقبة الزعيم الراحل ماو تسي تونغ، حين كانت تعمل في الحقول والمصانع وتخضع بشكل كامل للرجل بصفته "السيّد"، وما بين وضعها الآن عندما باتت تتمتع باستقلالية مادية تمنحها مزيداً من القوة والسلطة في مجتمع ذكوري.
وكتب شاب على صفحته على موقع ويبو المعادل الصيني لموقع تويتر: "ينبغي إعادة المرأة إلى المزارع لكسر أنفها. ما لم نفعل ذلك، سترتفع نسبة العنوسة في البلاد وتتراجع معدلات المواليد الجدد بما ينذر بحدوث كارثة اجتماعية حقيقية".
وسأل آخر: "ما الذي يمنع الحكومة من قصر الوظائف على الذكور، لتبقى المرأة في المنزل من أجل الإنجاب وتربية الأبناء؟"، لافتاً إلى أنّ وجود الإناث في الشركات والمؤسسات ووصولهنّ إلى مواقع ومناصب عليا سبّبا تشجيعهنّ على رفض الارتباط، الأمر الذي أدّى إلى أزمة ديموغرافية.
في المقابل، ارتفعت أصوات مدافعة عن المرأة، تفيد بأنّها نصف المجتمع وشريكة لا غنى عنها في عملية البناء ودعم مسيرة التنمية، وبأنّه لولا وجودها في ميادين العمل لما نجحت الصين في تحقيق معجزة اقتصادية بكلّ المعايير والمقاييس.
لي فونغ موظف في شركة لتعبئة المياة بمدينة شيامن جنوب شرقيّ الصين، يخبر "العربي الجديد"، قائلاً: "تزوّجت قبل ثلاث سنوات، وزوجتي تعمل في مدينة أخرى. لدينا طفل وحيد ترعاه جدّته، ونواجه مشكلة كبيرة في العيش معاً تحت سقف واحد بسبب ظروف العمل. لكنّني في الواقع لست راضياً عن ذلك، وأفضّل بقاء زوجتي في المنزل للاعتناء بالطفل، حتى لو اضطررتُ إلى العمل ورديّتَين، لكنّها لم توافق وفضّلت الاستمرار في عملها".
وعن رأيه في السجال القائم حول تعلّم المرأة ودور ذلك في عزوفها عن الإنجاب، يقول لي فونغ: "نعم، ثمّة علاقة مباشرة. فأمّي على سبيل المثال لم تدخل مدرسة، وقد تفرغت تماماً لتربية أبنائها (هم ثلاثة أشقاء) وهي تعتني الآن بثلاثة أحفاد، فيما ترفض زوجتي فكرة إنجاب طفل ثانٍ لمجرّد أنّها تحمل شهادة جامعية، كذلك تفضّل العمل على البقاء مع ابنها الوحيد لمنحه الرعاية اللازمة".
ويتابع: "الأمر لم يعد يُطاق. لا بدّ من أن تكون ثمّة قوانين رادعة لحثّ المرأة على العودة إلى المنزل للاعتناء بزوجها وأطفالها، لكنّ هذا يحتاج إلى تقديم مزيد من الحوافز للذكور، مثل رفع الأجور، لكي يتمكّنوا من تغطية تكاليف المعيشة من دون الاعتماد على الزوجة".
تعليقاً على مثل كلام لي فونغ، تقول مي يانغ، وهي موظفة في شركة للاستشارات المحاسبية بالعاصمة بكين: "من المؤسف أنّنا ما زلنا في القرن الواحد والعشرين نسمع مثل هذه الترهات. إنّه تفكير رجعي، يريدون إعادتنا إلى عصور التخلّف والرجعية".
تضيف لـ"العربي الجديد": "أنا أعمل ليس لمجرّد إلهاء نفسي عن مهامي كزوجة، بل التزاماً بالمسؤولية تجاه عائلتي. فراتب زوجي بالكاد يوفّر لنا بدل إيجار المنزل. ولو لم أعثر على وظيفة، سنضطرّ إلى وقف تعليم ابنتنا لأنّنا لن نكون قادرين حينها على سداد الأقساط المدرسية". وتشدّد مي يانغ: "لسنا متمرّدات على الزواج والإنجاب، لكنّ الظروف تحتّم علينا ذلك، فكلّ امرأة تريد أن تكون أمّاً لأكثر من طفل، لكنّ متطلبات ذلك باهظة".
في سياق متصل، تقول الباحثة الاجتماعية لورا تشين إنّ "مثل هذه النقاشات لا نشهدها إلا في المجتمعات الذكورية". تضيف لـ"العربي الجديد" أنّ "المرأة بريئة من كلّ ما يُنسب إليها، والأزمة الديموغرافية سبّبتها سياسة الطفل الواحد التي اتّبعتها البلاد منذ نهاية سبعينيات القرن الماضي لتحديد النسل. وقد أدّت إلى اختلال كبير في التوازن ما بين الجنسَين (10 ذكور في مقابل أنثى واحدة)".
وترى لورا تشين أنّ "اليوم، يريدون تحميل المرأة المسؤولية. ويخترعون ذرائع كثيرة، مثل التعليم والانخراط في مؤسسات العمل"، لافتة إلى أنّ "الصين ليست الدولة الوحيدة التي تندفع فيها النساء نحو التحصيل العلمي".
وتتابع: "في السابق، كانت المرأة مضطرّة إلى مجاراة الظروف الاجتماعية التي حتّمت عليها العمل كخادمة أو حتى محظية في بعض الأحيان، لكنّ واقع الحياة اختلف اليوم ونظرة المجتمع إلى المرأة كذلك شهدت تغيّرات جذرية؛ فلم تعد الأنثى مجرّد أداة للمتعة والترفيه عن الذكور، وهي صارت تتبوأ مناصب عليا حتى داخل الدول. لذلك من الإجحاف التقليل من شأنها أو مطالبتها بالعودة إلى المنزل، في حين أنّ الزوج نفسه غير قادر على توفير حياة كريمة لأسرته".
تجدر الإشارة إلى أنّه بحسب المكتب الوطني للإحصاء في الصين، ثمّة تراجع كبير في معدّلات الزواج والإنجاب في البلاد في السنوات الأخيرة، وقد شهد عام 2020 تراجعاً غير مسبوق، إذ سُجّل 8.14 ملايين زواج فقط مقارنة بـ13.47 مليوناً في عام 2013. كذلك انخفضت معدّلات المواليد في عام 2021 إلى 7.5 مواليد لكلّ ألف شخص، وهو أدنى رقم منذ تأسيس جمهورية الصين الشعبية في عام 1949.