في العراق، كثر هم المصابون بأمراض نفسية وعقلية الذين يجدون أنفسهم مشرّدين في الشوارع، إمّا لأنّهم لا يعون واقعهم وإمّا لعدم القدرة على علاجهم.
يُحكى أنّ العراق يشهد زيادة ملحوظة في أعداد المصابين بأمراض نفسية وعقلية، وأنّ كثيرين منهم يتوزّعون في الشوارع والمتنزّهات وفي الأسواق. وهؤلاء رجال ونساء هائمون، لكلّ منهم قصته وحالته الخاصة، ومن بينهم من هو مؤذٍ ويعتدي على الناس. ويظهر بعضهم بثياب رثة فيتصّدق عليهم قاصدو المساجد وميسورو الحال، من دون اهتمام حكومي يُذكر. هل هي فعلاً زيادة؟ أم أنّ الأمر يتعلّق بظهور أكبر لهؤلاء، لا سيّما أنّ لا بيانات رسمية تكشف أعداد العراقيين الذين يعانون من تلك الأمراض؟
على الرغم من عدم توفّر أرقام في هذا الإطار، يقول مسؤول في مستشفى الرشاد التدريبي للأمراض النفسية والعقلية (الشماعية) في بغداد، فضّل عدم الكشف عن هويته، لـ"العربي الجديد"، إنّ "المستشفى المتخصص في إيواء مصابين بأمراض نفسية وعقلية لم يعد قادراً على استيعاب مرضى جدد. فالأعداد كبيرة، والغرف المخصصة لأربعة مرضى أو خمسة، باتت تحوي ثمانية. وهذا أمر لا تتناوله السلطات الصحية". ويعاني مستشفى الرشاد، وهو الوحيد في العراق في تخصصّه هذا، من قلة الكوادر الطبية والخدمات والعلاجات والمستلزمات المطلوبة للحالات التي يستقبلها، فضلاً عن اعتماده على المتبرّعين لتوفير احتياجات مرضاه. وكان عضو مجلس النواب السابق رعد الماس قد وصف المستشفى قائلاً إنّه "مقبرة للأحياء"، مشيراً إلى أنّه "يعاني من نقص واضح في الخدمات وقلة الدعم، والمناطق الخضراء المحيطة به صارت أشبه بأرض قاحلة، وبقيت بعض أشجار نخيل تقاوم الإهمال".
يضيف المسؤول في مستشفى الرشاد أنّ إدارته "إلى جانب وحدات المصابين بأمراض نفسية وعقلية في وزارة الصحة العراقية تستشعر منذ نحو أربعة أعوام الزيادة المتواصلة بأعداد المرضى، وأنّ المسؤولين بمعظمهم طالبوا الوزارة بضرورة توفير مستشفيات خاصة لهؤلاء. لكنّ الوزارة أشارت إلى أنّها لا تملك الأموال الكافية لذلك، وبادرت إلى إنشاء مراكز تأهيلية للمرضى، اثنان منها في بغداد وواحد في محافظة كربلاء". ويتابع المسؤول نفسه أنّ "محافظات العراق كلها في حاجة إلى اهتمام، لجهة توفير مراكز تأهيل وبناء أكثر من أربعة مستشفيات".
وفي بغداد والناصرية وكركوك، تزداد أعداد المرضى، بحسب ما تفيد مصادر في وزارة الصحة. تضيف المصادر نفسها، متحدثة لـ"العربي الجديد"، أنّ كثراً من هؤلاء "ينتشرون في الشوارع ويتعرّضون إلى سخرية الأطفال وأحياناً إلى مضايقات من قبل البالغين. ويلجأ عدد منهم إلى الجوامع التي تُخصّص لهم فرشاً وطعاماً. هناك، لا أحد يؤذيهم". وزيادة أعدادهم، دفعت المسؤول في دائرة صحة كركوك مؤيد البياتي إلى القول إنّه "لا بدّ من الاعتراف بهؤلاء"، لافتاً، في حديث لـ"العربي الجديد"، إلى أنّ "نحو 100 مريض يهيمون في شوارع محافظة بابل وحدها. ومن جهة أخرى، ثمّة أسر لا تسمح لمرضاها بالخروج من المنازل وتحاول معالجتهم من دون نتيجة".
في سياق متصل، يقول عمران عبيد الحمداني، وهو مسؤول في دائرة صحة بغداد، لـ"العربي الجديد"، إنّه "من الصعب إحصاء المصابين بأمراض نفسية وعقلية والمشرّدين، لأنّ بعضهم يتنقّل بين المحافظات من دون أن يتنبّه أحد إليه. وقد مات عدد منهم من دون أن يعرف أحد عنهم شيئاً. لذلك فإنّ السلطات الصحية تعاني في تعاملها مع هؤلاء، على الرغم من أنّها تملك الفرق الصحية الخاصة". يضيف الحمداني أنّ أعداد هؤلاء المرضى المشرّدين تزايدت في الأعوام الماضية، بسبب الحرب والأزمات، منها العاطفية، فيما تُعَدّ البطالة سبباً رئيسياً. والأمر ينطبق على الرجال والنساء على حدّ سواء".
من جهتها، تقول الطبيبة زينب السامرائي، المتخصصة في الأمراض النفسية والعقلية في بغداد، إنّ "زيادة أعداد المرضى هي أمر طبيعي"، إذ إنّ المرضى الجدد يُضافون إلى مرضى آخرين لم يُعالجوا. وتوضح، في حديثها لـ"العربي الجديد"، أنّ "العراق ليس في حاجة إلى استيراد خبرات من الخارج، بل إلى استيراد مناهج طبية متطورة للتعامل بطريقة متخصصة مع المرضى".
في حيّ القاسم في محافظة بابل، جنوبي العراق، يعيش علي نونه في عالمه الخاص. هو أصيب بشظيّة في رأسه في خلال المعارك العسكرية التي خاضتها القوات العراقية ضدّ تنظيم "داعش"، فتضرّر وعيه. وصارت مشاهد من الحرب تسيطر عليه، ويروي تفاصيلها لكلّ قريب منه. يقول حسين جابر، وهو أحد أقرباء نونه، لـ"العربي الجديد"، إنّ "وضعه الصحي يتدهور بشكل مستمر، فهو لم يكن بعد عام من إصابته كما هو اليوم". ويشير إلى أنّ "مستشفى الرشاد في بغداد لم يستقبل نونه لسببَين، السبب الأوّل هو أنّ إصابته حديثة العهد وتحتاج إلى رعاية بتمويل من الحكومة العراقية، أمّا الثاني فواقع أنّ المستشفى يعاني من اكتظاظ".
ويخبر جابر بأنّ "أسرة نونه لا تستطيع السيطرة عليه. فإخوته يحاولون وضعه في غرفة وتوفير احتياجاته الأساسية، إلا أنّه يغضب بسرعة ويتحوّل إلى شخص عدواني. بالتالي، يُترَك في الشارع. لكنّهم يراقبونه دوماً، ويمنعونه من أيّ تجاوز قد يقدم عليه في حقّ الأهالي الذين يحبّونه ويتعاطفون معه". ويتابع جابر أنّ "للرجل زوجة وطفلَين، لكنّ الحكومة العراقية قطعت راتبه بعد إصابته، بحجّة أنّه تسرّب من أرض المعركة، على الرغم من أنّ أسرته تملك كلّ الأوراق والإثباتات التي تؤكّد إصابته وتردّي حالته العقلية".