بعد الأزمة الاقتصادية الأخيرة في العراق، التي تسببت بها جائحة كورونا، وانخفاض أسعار النفط، وتراجع السيولة المالية في الأسواق، ومخاوف قطع الرواتب، بات التوجه إلى أسواق الملابس والأحذية المستعملة "البالة" اعتيادياً لشرائح الموظفين، وإن كانت تلك الأسواق مخصصة للفقراء وذوي الدخل المحدود، في ما مضى. مع ذلك، فإنّ التفجيرين الانتحاريين الأخيرين في ساحة الطيران ببغداد، ومقتل أكثر من ثلاثين مواطناً وإصابة نحو 110 آخرين فيهما، جعلت مثل هذه الأسواق خطراً على المتبضعين منها والعاملين فيها.
شهدت أسواق البالة أو "اللنكة" (كما يطلق عليها العراقيون) توسعاً خلال السنوات الأخيرة، وباتت تلبي جميع احتياجات الناس، وباتت مفتوحة على قطاعات عدة، ومنها أسواق الكهربائيات والأثاث المنزلي، التي يقبل عليها المواطنون أيضاً بسبب أسعارها المقبولة وجودتها في الوقت نفسه، وضاعف الإقبال على هذه الأسواق، ارتفاع نسب الفقر في البلاد، وهشاشة الوضع الاقتصادي والتدهور المعيشي خلال السنوات العشر الماضية. وتنتشر أسواق البالة في عموم مناطق العراق، بما فيها محافظات إقليم كردستان، شمالي البلاد، لكنّها تكثر في بغداد، خصوصاً في: البياع والكاظمية والباب الشرقي والباب المعظم، وحتى في المناطق الراقية مثل المنصور والكرادة. يقول أحمد سالم، وهو بائع ملابس مستعملة في سوق ساحة الطيران، الذي شهد مؤخراً التفجيرين الانتحاريين اللذين راح ضحيتهما أبرياء: "مهنتنا ليست سهلة، بل محفوفة بالمخاطر، فإلى جانب بيعنا ملابس مستعملة قد تحمل أمراضاً وفيروسات، نواجه خطر الإرهاب من جديد، لا سيما بعد التفجيرين الأخيرين اللذين راح ضحيتهما 11 بائعاً للبالة". يضيف لـ"العربي الجديد" أنّ "التفجيرين الأخيرين أسهما بشكلٍ كبير بتراجع أعداد المتبضعين، إلى حدّ أنّ الأيام الماضية لم نتمكن خلالها من بيع ربع الكميات التي كنا نبيعها قبلهما".
من جهته، يقول بائع آخر، من حيّ فضوة عرب، القريب من ساحة التحرير ببغداد، إنّ "الباعة المتجولين غالباً ما يكونون من ضحايا الإرهاب والملاحقات الأمنية، لأنّهم فقراء ولا يملكون غير المحال الموقتة أو الأكشاك والبيع على الأرصفة. طوال السنوات الماضية خسرت أسواق البالة في بغداد عشرات الباعة بسبب التفجيرات التي تنفذها الجماعات الإرهابية". يؤكد لـ"العربي الجديد" أنّ "التفجيرين الأخيرين، أديا إلى إغلاق بعض المحال بسبب التهديدات الأمنية، وقرر بعض أصحابها الانتقال إلى أماكن أخرى، لأنّ الإرهاب يبحث عن التجمعات البشرية". من جهته، يقول الناشط حمزة سلام، إنّ "الفقراء هم ضحايا جميع الإخفاقات السياسية والأمنية والاقتصادية، ودائماً هم الحطب الجاهز في موقد كلّ المشاكل في العراق، ولذلك تزداد حياتهم بؤساً وتعاسة مع تقدم الوقت، ولا تساعدهم الحكومة في أيّ وظائف أو في توفير البيئة المناسبة لكسب الرزق، وهذا أقل ما يمكن أن تقدمه السلطات". يوضح لـ"العربي الجديد" أنّ "البالة باتت تجارة مزدهرة، وهناك استمرار باللجوء إليها، حتى باتت شركات كاملة تعمل فيها وتعنى ببيع جميع الأغراض المستعملة، بدءاً من الملابس والأحذية وصولاً إلى المستلزمات المنزلية والأجهزة الكهربائية وغيرها، وهذا الأمر يشرح مدى ما وصل إليه العراق من حالة اقتصادية ومعيشية صعبة".
من جانبه، يشير الناشط السياسي المستقل من بغداد، سعد المطلبي، إلى أنّ "جميع الحكومات التي تعاقبت على حكم العراق بعد عام 2003، فشلت في احتواء الفقراء وتوزيعهم على المشاريع الصناعية والزراعية، تحديداً شريحة الشباب، لغياب المشاريع واعتماد البلاد على الاستيراد من الخارج، وهو ما أدى إلى زيادة في نسب الفقر والبطالة وتراجع الاقتصاد العراقي، وعدم تقدم عجلة التنمية في المجالات والقطاعات كافة". يتابع في اتصالٍ مع "العربي الجديد" أنّ "الحالة المؤسفة التي وصل إليها العراق تتحمل الحكومة والأحزاب المتنفذة مسؤوليتها، كما تتحمل مسؤولية كلّ الدماء التي تسببت بها الإخفاقات الأمنية". يشير إلى أنّ "من المؤسف أن تصل الحال بالمواطن العراقي إلى الاعتماد على البضاعة المستوردة والرديئة، بعدما كانت البلاد تنتج كلّ شيء، ابتداءً من الملابس وصولاً إلى السيارات والأسلحة". ويعزو متابعون للشأن المحلي العراقي انتشار أسواق البالة إلى سوء إدارة الطبقة السياسية الحاكمة للبلاد، منذ عام 2003 حتى اليوم، مع العلم أنّ العراق يملك موارد اقتصادية متنوعة، لكنّ الفشل في إدارتها أدى إلى ارتفاع نسب الفقر فيه.