ارتفاع درجات الحرارة لم يغير من عادات العراقيين في حبهم ورغبتهم في شرب الشاي، حتى إن كلفهم الأمر الاصطفاف تحت أشعة الشمس بانتظار القدح الذي يخفف عنهم هذه الحرارة.
الشاي لا يكاد يخلو من مناسباتهم السعيدة والحزينة، ودواوينهم، وجلساتهم الرسمية وغير الرسمية، وفي المفاوضات، فهو يقدم بأوعية صغيرة توضع في صحن صغير، تعرف باسم "الإستكان"، ولا يوجد زمان ومكان لشرب الشاي بالنسبة للعراقيين، فهو يشرب صباحا مع الإفطار، ويجري تناوله بعد وجبة الغداء والعشاء، كما يشرب وحده أو مع الكيك، أو (الكليجية)، كما يسميها العراقيون.
لم يكن حب الشاي من نصيب الرجال فقط، فأم يوسف (هيفاء) أدمنت عليه منذ أن تخرجت في الجامعة، قائلة لـ"العربي الجديد": "عندما تخرجت ولم أجد فرصة عمل، بدأ حبي للشاي يزداد بسبب وجودي في المنزل، ولا يوجد ما انشغل به غير شرب أكواب من الشاي والقهوة".
وتضيف: "بعد تعييني في إحدى الوزارات، ازداد حبي لشرب الشاي بسبب سهولة تحضيره أكثر من القهوة، وهنا بدأت حقاً أدمن عليه إلى أن وجّه مديري بعدم تناول الشاي خلال الدوام الرسمي إلا مرة واحدة صباحا فقط".
"لا مثيل للشاي فهو يعادل جميع المشروبات"، هكذا وصف أبو علي (حسين علي)، البالغ من العمر 55 عاما، حبه للشاي، حيث يقول لـ"العربي الجديد": "لم أشرب ما هو ألذ من الشاي، فهو رفيقنا منذ الصغر. تعودنا على وجوده عند الإفطار صباحا، وبعد أن كبرنا اعتدنا عليه وكأنه أحد الطقوس اليومية التي يجب أن تكون ضمن جدول أعمال المنزل أو العمل في الصباح، وفي الظهيرة بعد الغداء وفي المساء أيضا".
وعن تحضير الشاي في أحد شوارع العاصمة بغداد بمنطقة الكرادة تحديدا، الواقعة وسط العاصمة، والتي ينتشر على طول طريقها بائعو الشاي، يروي محمد السوداني (60 عاما)، وهو واحد من أشهر بائعي الشاي فيها، لـ"العربي الجديد"، تجربته، قائلا: "وصلت العراق قبل أكثر من أربعين عاما، عملت بمهن مختلفة، كان آخرها هذا المقهى الذي هو ملك لي، التحقت به عاملا قبل 35 عاما، ومن ثم عرف باسمي، مقهى شاي السوداني".
ويضيف السوداني أن "صاحب المقهى شجعني لشرائه، وبصراحة حبّ العراقيين للشاي دفعني أكثر للتمسك بهذه المهنة".
ويتابع السوداني لـ"العربي الجديد": "عشت مع العراقيين كل ظروفهم الصعبة التي تمثلت بالحصار بداية التسعينيات، والاحتلال الأميركي بعد 2003، وغيرها من ظروف عدم الاستقرار الأمني. خلال كل هذه المحطات ظل العراقي مخلصا لشرابه المفضل وهو الشاي، وجدت شيئا آخر أيضا، وهو أن العراقي تجده يعيش تحت الضغط في كل مكان إلا في المقهى، حيث يكون مسترخيا جدا وهو يشرب الشاي، ويتحدث بأريحية كاملة في العمل والسياسة والرياضة وكل شيء، فيما لو فتح هذا النقاش في مكان آخر قد يتطور حتى إلى العراك".
ويضيف: "حب العراقيين وتمسكهم بالشاي دفعني لأكون شغوفا بعملي، وقد أبالغ إن قلت إن مقهاي رغم صغرها تعد أهم مقهى في بغداد معروفة باسم شاي محمد السوداني".
فوائد شرب الشاي
بدوره، يوضح الطبيب المختص بالجهاز الهضمي حازم الشمري فوائد شرب الشاي وأضراره أيضا، قائلا لـ"العربي الجديد": "بعيدا عن الشاي، فإن كل ما يسرف بتناوله الإنسان يعتبر ضارا لصحته، فشرب الشاي له فوائد إن جرى تناوله بالوقت والطريقة الصحيحة دون الإكثار منه ومن وضع السكر عليه".
ويبين الشمري الفوائد المهمة لشرب الشاي، وأولها تعزيز صحة القلب، وتحسين صحة الجهاز الهضمي، كما أنه يساعد على تقليل الكولسترول الضار والدهون الثلاثية، فضلا عن تقليل مستوى السكر في الدم.
وعن أضرار الشاي يقول الشمري: "عند تناوله في الأوقات الخطأ، وهذا ما يفعله أغلب الأشخاص، وهو شربه بعد وجبات الطعام، يمتص الشاي الحديد، لذلك يفضل شربه قبل وجبات الطعام بنصف ساعة".
وتختلف طريقة تحضير الشاي بين بائع وآخر، فمنهم من يضع الماء وأوراق الشاي الأسود في إبريق الشاي "القوري"، تضاف له حبات الهيل، أو عبر تسخين الماء حد الغليان ثم وضع أوراق الشاي فيه وإطفاء النار بعد ثوان قليلة، ويترك الشاي لـ"يتهدر"، أو يتخمر قبل شربه.
أما الشاي الأكثر شهرة في العراق فهو الشاي "المتخمر" على الفحم، أو كما يدعوه العراقيون "الشاي الرئاسي"، حيث يطبخ عبر وضع أوراق الشاي والكثير من حبات الهال في إبريق مصنوع من الألومنيوم، ويوضع إلى جانب منقلة شوى اللحوم، وخصوصا السمك المسقوف.
الشاي.. ثقافة شعبية
وللشاي ثقافة شعبية خاصة به، فثمة بيوت تتحاشى وضع وجه إبريق الشاي أو "القوري" باتجاه أحد الجالسين، لأن ذلك قد يترتب عليه "خلق مشكلة عائلية"، بحسب ما يعتقدون، فيما لا بد من تجنب وضع ملعقتين في أقداح الشاي المقدمة للرجال، والذي يعني أن "الشخص سيتزوج بثانية إذا كان متزوجا، أو إذا كان عازبا فيقال إنه سيتزوج باثنتين"، بحسب المرويات الشعبية.
ويعتبر عراقيون أنه "إذا صُب الشاي وظهرت الفقاعات في القدح، فيعني ذلك أن ثمة رزقا جديدا في الطريق. أما إذا قدم الشاي في تجمع كبير للرجال قد يكون غايته الصلح بين طرفين متنازعين، فإن تركت الأقداح دون شربها من الجالسين، فإن ذلك يعني أن عملية الصلح جرت دون قناعة، أو هي طريقة تعبير عن عدم الشعور بالارتياح لما آلت إليه جلسة الصلح، فيما إذا طلب الحاضرون أقداحا أخرى من الشاي، فهذا يعني أن الجميع راض بمخرجات الجلسة".
وحب العراقيين للشاي دفعهم للتغزل به. ففي أربعينيات القرن الماضي اشتهرت أغنية عن الشاي وما زالت معروفة حتى الآن بعد أن توطنت في الذاكرة الشعبية. تقول الأغنية:
خدري الجاي خدريه عيوني المن أخدره
مالج يبعد الروح دومج مكدرة
أحلف ما أخدره ولا أقعد كباله
إلا يجي المحبوب واتهنه بجماله