استمع إلى الملخص
- أثر التصعيد العسكري على الاقتصاد المحلي، حيث أغلقت المحال وتوقفت حركة البيع، بينما يواجه السكان الباقون صعوبات في تأمين احتياجاتهم الأساسية، مثل الصيدلي حسن جاري وعلي الموسوي.
- رغم المخاطر، يصر بعض السكان مثل هادي بحلق وهادي الساحلي على البقاء والعمل، معبرين عن التزامهم تجاه مجتمعهم وواجبهم الاجتماعي.
لم تكن مناطق البقاع عرضة للاستهداف الإسرائيلي لعدة أشهر، مقارنة بمناطق الجنوب اللبناني، لكنها باتت مستهدفة عقب تصعيد الصراع، وتكررت الغارات على مدنها وبلداتها، كما تكررت موجات النزوح.
يتواصل العدوان الإسرائيلي على مختلف المناطق اللبنانية، ومن بينها مناطق البقاع في الشرق، والتي لم تكن في السابق ضمن مناطق الاستهداف الإسرائيلي، قبل أن يطاولها التصعيد الذي تفاقم في 23 سبتمبر/ أيلول الماضي، لتصبح جزءاً من المناطق التي تتعرض لاعتداءات متكررة، وتصيبها غارات مدمرة ودامية.
أصبحت أعمدة قلعة بعلبك الرومانية الشهيرة التي يناهز عمرها 3000 سنة، معرضة لتهديد وجودي من جراء سقوط الصواريخ الإسرائيلية التي لا تفرق بين البشر والحجر، ولا بين التاريخي وغير التاريخي. وربما لم تشهد بعلبك، مثل هذا التهديد المباشر لها ولسكانها طوال سنوات الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي، إذ طاولت الاعتداءات الإسرائيلية محيط القلعة، وأدت إلى أضرار في بعض آثار المدينة.
ودفعت الغارات الكثير من أهالي البقاع الشرقي إلى النزوح تاركين مناطقهم وبيوتهم، خاصة بعد سلسلة إنذارات وجهها المتحدث باسم جيش الاحتلال أفيخاي ادرعي لسكان مدينة بعلبك ومحيطها. نزح معظم السكان إلى زحلة، أو البقاع الغربي، أو إلى العاصمة بيروت، والشمال اللبناني، ومنهم من غادر البلاد إلى سورية أو غيرها من البلدان.
وتقدر مصادر رسمية في البقاع، أن نحو 70% من سكان محافظة بعلبك- الهرمل نزحوا منها قسراً، وأن موجات النزوح تزايدت بعد الاعتداءات الإسرائيلية الأخيرة.
في المقابل، يصمم البعض الآخر من السكان على البقاء، رافضين النزوح، ومتمسكين بالبقاء والصمود رغم الخطر الداهم.
تعرض الكثير من مدن وبلدات البقاع لعشرات الغارات التي خلفت شهداء
من مدينة بعلبك، يقول الصيدلي حسن جاري لـ"العربي الجديد"، إن "العدوان الذي تواجهه مدينة بعلبك ألزمني بالبقاء إلى جوار أهل منطقتي كما يحتم علي واجبي المهني والاجتماعي خلال هذه المحنة. الغارات العنيفة على بعلبك أثَّرت بشكل كبير على حركة التبادل التجاري، وعلى الوضع الاقتصادي بشكل عام، إذ نزح معظم أهالي المدينة، ما بات يهدد تأمين قوتي اليومي بصفتي رب أسرة، فضلاً عن كوني أستضيف والدي وشقيقتي اللذين نزحا من منزليهما بعد أن تلقيا اتصالات تطلب منهما الإخلاء، فقررا البقاء في منزلي، وعدم المغادرة إلى منطقة أخرى".
ويتحدث الصيدلي اللبناني عن صعوبات كبيرة في تأمين الحاجات الأساسية في ظل إغلاق غالبية المحال التجارية وتوقف حركة الشراء والبيع في المدينة. يوضح: "كان لدي مخزون من المؤن منذ ما قبل الحرب، وصيدليتي ما زالت تساهم في توفير دخل مالي يومي لي، كما أن أبي يملك محال لبيع الحلويات، ما يعني أن أوضاعنا المادية جيدة. لكن شراء المستلزمات اليومية صعب، ولا يمكن التنبؤ بما سيحدث في المستقبل. عندما نسمع أصوت المقاتلات الحربية الإسرائيلية يصيبنا الخوف، ونظل مرتبكين لعدة ساعات بعدها، وقد سلمنا أمرنا لله، إذ لا يوجد أي شيء يحمينا من القصف".
ورغم النزوح الكثيف الذي شهدته بلدة النبي شيت (محافظة بعلبك الهرمل) بقي عدد كبير من أبناء البلدة في بيوتهم، ويعتبر حانوت علي الموسوي مصدر رزقه الوحيد، وسبيله لتوفير قوت أولاده، إذ لا يزال الكثير من أبناء البلدة يترددون عليه للشراء. يؤكد الموسوي (40 سنة)، وهو رب أسرة مكونة من أربعة أفراد، أن بلدته التي تقع في الشمال الشرقي، كان لها نصيب كبير من الغارات الإسرائيلية، إذ ضربتها عشرات الغارات العنيفة التي خلفت عشرات الشهداء.
ويقول لـ"العربي الجديد": "لا يمكن أن أترك بلدتي، وأواصل العمل في حانوتي الصغير، والذي تضرر من جراء الاعتداءات الإسرائيلية، وأولادي الثلاثة الذين لا يتجاوز عمر أكبرهم عشر سنوات يرفضون مغادرة البيت الذي طاولته بعض الأضرار. سنظل صامدين في أرضنا ومنزلنا، ويلّي كاتبو الله بصير".
إلى جانب منزل الموسوي مجرى ماء جاف يبلغ عمقه نحو مترين، ويقول إنه "في أوقات القصف العنيف، أنزل مع أولادي الثلاثة إلى مجرى المياه، ونظل فيه حتى ينتهي القصف، والأولاد يعيشون حالة من الذعر المستمر، وسؤالهم المتكرر كل صباح: متى تنتهي الحرب؟".
تعرضت بلدة يونين (محافظة بعلبك الهرمل) لعشرات الغارات العنيفة منذ بدء العدوان الإسرائيلي. يقول ابن البلدة هادي بحلق إنه المعيل الوحيد لأسرته المؤلفة من تسعة أفراد، وإنه كان يعمل في زراعة التين، لكن الموسمين الأخيرين تضررا من جراء الحرب، ما أدى إلى ضياع نصف المحصول، وانعكس على تجارته، فاضطر إلى العمل في خدمات تركيب شبكات الإنترنت، وهذا ما أعانه على تأمين قوت أسرته.
يتمنى هادي أن تنتهي الحرب سريعاً حتى يتخلص من الأزمات التي يعيشها، ويتجاوز الصعوبات المادية والأمنية الحالية. ويوضح لـ"العربي الجديد": "لا مكان آمنا في البقاع، وأعيش مع عائلتي على هاجس الموت المفاجئ الذي قد يصيب أحد أفراد العائلة بسبب القصف المتكرر. الأموال التي جمعتها قبل الحرب من ممارسة خدمة تركيب شبكات الإنترنت ساعدتني في هذه المحنة، إذ توقفت جميع الأعمال بفعل الحرب".
ولا يمكن الدخول إلى البقاع من دون المرور بمدينة الهرمل، والتي تقع شمال غرب بعلبك، وبالقرب من الحدود السورية. لم تسلم المدينة من الاعتداءات الإسرائيلية، وسقط عشرات الشهداء من أبنائها. يشير الشاب هادي الساحلي (23 سنة) إلى أن أسرته نزحت من الهرمل إلى بلدة عرسال في قضاء بعلبك بعد اشتداد الغارات العنيفة التي طاولت محيط المنزل، وانتقلت إلى منطقة مجاورة أكثر أمناً.
ويضيف الساحلي: "ليس هناك مكان آمن في لبنان، لذا قررت البقاء مع أخي وأبي اللذين لم ينزحا بسبب (سوبرماركت) نملكه، وافتتحناه قبل فترة قصيرة من تصاعد الحرب، وكان مصدر رزقنا الأساسي. الواجب الاجتماعي حتم علي البقاء لكوني متطوعا في الصليب الأحمر اللبناني، ولا يمكنني ترك المنطقة في ظل التصعيد العسكري الحاصل بينما أبناء المنطقة بأمس الحاجة إلى الخدمات. لكن إذا ما شهدت المدينة مزيداً من التصعيد الذي يعرض حياتنا للخطر، فقد نضطر إلى المغادرة".
يتذكر هادي تفاصيل بعض الوقائع التي كان يعاينها في أوقات القصف خلال عمله مع فريق الإسعاف، كما لا يغيب عن باله حجم الدمار الذي كان يسود المكان المستهدف، وصعوبة انتشال الجثامين وإنقاذ الأشخاص العالقين تحت الركام بسبب ضعف الإمكانات وندرة آليات رفع الأنقاض.
تعرضت قرية بدنايل في قضاء بعلبك لمجزرة وحشية في 31 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، وذلك بعد ساعات من إنذارات المتحدث باسم جيش الاحتلال الإسرائيلي في الليلة السابقة، والتي طاولت بقعة واسعة من المنطقة، وتحديداً سكان مدينة بعلبك وعين بورضاي ودورس، والتي تعتبر من الأماكن الحيوية والأكثر اكتظاظاً بالسكان في البقاع اللبناني، وقد سادت حالة من الذعر في نفوس الأهالي بعد الغارة العنيفة، ونزح الكثير منهم إلى مناطق مختلفة.
يقول إيهاب شاهين: "لم يشمل التهديد الإسرائيلي بالإخلاء بلدة بدنايل، ومع ذلك، أغار طيران الاحتلال الحربي على مبنى سكني مؤلف من طابقين في البلدة، سقط ضحية هذا الاستهداف تسعة شهداء، ولم يبق من تلك العائلة سوى كلبهم الأليف الذي كان يساعد آليات رفع الأنقاض على إيجاد أماكن شهداء العائلة، ويشارك في البحث من خلال استخدام مخالبه وقدرته على اكتشاف الجثامين من خلال حاسة الشم".
ويؤكد الإعلامي حسين شحادة، ابن بلدة حوش الرافقة في قضاء بعلبك، أن حجم المعاناة التي يعيشها أبناء محافظة بعلبك الهرمل كبير، وأن ما يراه الصحافيون أثناء جولاتهم وتغطياته في مناطق البقاع لا يقارن بالواقع على الأرض، ويقول: "شخصياً، لم ينزح أهلي إلى منطقة أخرى، بل قرروا البقاء في منزلنا رغم أن البلدة تعرضت لأكثر من غارة، أصابت إحداها محيطة المنزل، ورغم ذلك يرفض والدي المغادرة".
ويوضح شحادة: "الخوف يعتري أهلي بسبب تنقلي المتكرر بين أماكن القصف والاستهداف، وهذا أمر طبيعي، خاصة بعد استهداف العدو لعشرات الصحافيين من دون أي رادع. أخي يدرس الطب في روسيا، وهذا يفاقم خوف والدي على مصيري".