الصّلح في الجزائر... عدالة "ناعمة" ضد الفتنة

18 سبتمبر 2021
الصلح لا يتعارض مع قرارات المؤسسات الرسمية (رياض كرامدي/ فرانس برس)
+ الخط -

قبل فترة تابع الجزائريون باهتمام بالغ زيارة قامت بها شخصيات دينية وأعيان من ولاية تيزي وزو (شرق) الى مدينة مليانة وسط الجزائر، من أجل إنجاز قضية صلح اجتماعي، وتقديم فدية لعائلة الشاب جمال بن إسماعيل الذي قُتل وأحرقت جثته ونُكِّل بها في منطقة "لاربعا ناث ايراثن" بولاية تيزي وزو في 11 أغسطس/ آب الماضي. هدفت المصالحة أيضاً إلى إطفاء نيران الفتنة التي اشتعلت بعد الحادث، وجبر خاطر العائلة وسكان مليانة، علماً أن والد الضحية تسلم مبلغ فدية مقداره 170 ألف يورو.

تقاليد الصلح
عرفت الجزائر طوال عقود من تاريخ مجتمعاتها المحلية في مناطق مختلفة تقليد عقد اجتماعات الصلح كوسيلة لإيقاف نزيف الفرقة والفتنة والخلافات، خصوصاً بين العائلات والقبائل. وتولى مشايخ وأعيان كل منطقة إقامة الصلح، وأطلقت عليهم ألقاب "جماعة الصلح" أو "جماعة الأمان"، وكذلك "بتاجماعت" (الجماعة) في منطقة القبائل. 
وتنتهي عمليات الصّلح عادة بإقامة وليمة لتأكيد تجاوز الخلافات ونجاح الصلح. ويشهد بعضها تقديم تعويض مادي إذا كانت هناك خسائر مادية، أو فدية إذا كان هناك قتيل، تشكل وسيلة للتعويض أو لتعبير سكان المنطقة عن اعتذارهم لعدم حماية القتيل الذي أردي في منطقتهم.

وفي ولايات منطقة الأوراس، خصوصاً في خنشلة وأم البواقي وباتنة (شرق) يخصص كبار المنطقة وأعيانها جلسة "الأمان" للإشراف على عملية الصلح الاجتماعي. ويصرح أستاذ التاريخ في جامعة باتنة، فريد عمرون، لـ" العربي الجديد": "يعني الأمان أن أية تفاصيل عن أحاديث تدور في تلك الجلسات تبقى سرية بين أعضاء الجلسة التي يأخذ فيها المتخاصمون وثاق الأمن والأمان من كبار المنطقة لحلّ المشكلة ودّياً بينهم، أو الامتناع عن فضح الآخر خارج الجلسة في حال عدم الوصول إلى نتائج". يضيف: "يقطع هذا النوع من الجلسات غالباً الطريق على الذهاب إلى المحاكم، ويجنب زيادة الفرقة بين العائلات، علماً أن الجلسات تتمحور عادة حول قضايا اجتماعية تهدد الأسر مثل الطلاق ونزاعات الإرث والتجارة والجرائم الكبيرة التي يصعب أن تحلها أطراف متخاصمة".
وبحسب القانون المعمول به في تسيير مراحل الطلاق في المحاكم الجزائرية، فإنّ أول مرحلة تبدأ بجلسات الصلح التي تعقد بين الطرفين عند قاضي شؤون الأسرة قبل أن تتجه القضية إلى الفصل النهائي، لكن جلسات كثيرة تبوء بالفشل في إصلاح ذات البين، وتجنب الطلاق الذي كشف تقرير صدر العام الماضي أن عدد حالاته يتجاوز 70 ألفاً سنوياً.

دور مهم للمساجد في جلسات الصلح (بلال بن سالم/ Getty)
دور مهم للمساجد في جلسات الصلح (بلال بن سالم/ Getty)

وبالطبع يجب أن تتكيف عمليات الصلح الاجتماعي مع المتغيرات في المجتمع الجزائري، وبينها خروج المرأة إلى العمل وتمركزها في قلب النشاط الاقتصادي، والتأثير الكبير لوسائل الإعلام الحديثة، والغزو الثقافي الذي أتاح مراجعة مجتمعية للعلاقة بين الرجل والمرأة، إذ لم تعد كثيرات من الزوجات يتقبلن سلطة الرجل، ما أدى إلى وقوع صدام بين العادات والتقاليد الأسرية التي يعرف بها المجتمع الجزائري من جهة والأفكار المستحدثة والنمط الاجتماعي الجديد من جهة أخرى، ما يخلق حالة صدام أسري.

الكلمة العليا والنهائية
وتتكرّر التجربة ذاتها في منطقة القبائل (وسط)، إذ يحتكم المتخاصمون إلى "ثاجماعت"، أي "الجماعة التي تتألف من أعيان لكل ولايات المنطقة"، من أجل القيام بدور الصلح، وتكريس التضامن الاجتماعي والتكافل والوقوف إلى جانب العمل الاجتماعي الذي يخلق الود بين الجزائريين. 

طلاب وشباب
التحديثات الحية

ويظهر دور جماعة "ثاجماعات" جلياً في مساعي الصلح التي تبذلها، ومساهمتها في فكّ خلافات يتعذّر حلها سلمياً، خصوصا أنّ كلمتها هي العليا والنهائية في قرارات عدة، ما يعني أن أي طرف لا يمكن أن يتجاوز ما تقرّره، استناداً إلى العقل والحكمة. 
وتشدد الأستاذة فريدة آيت يعلى من جامعة تيزي وزو في حديثها لـ"العربي الجديد" بأن "جماعة ثاجماعات وسيلة لتوثيق الصلات بين الأفراد والعائلات في المجتمع. ومن أسباب وجودها تعزيز العلاقات ومنع التفكّك الأسري خصوصاً في القضايا ذات البعد الاجتماعي والإنساني. كما تتدخل في فضّ النزاعات الكبرى التي تنتهي غالباً بطريق مسدود على المستوى الفردي، لتتكفّل مجموعة الصلح بحلها وإيجاد مخارج لها تمنع رفع قضاياها أمام أروقة المحاكم".

العُرف أهم من القانون
وتعتبر غرداية (جنوب) من أكثر الولايات الجزائرية التي لا تزال تحتفظ بتقليد إقامة جلسات الصلح. وقد أنشأت لجاناً عرفية لهذا الأمر، وعرفت تجارب ناجحة في فض نزاعات كثيرة. 
ويشرح الناشط في المجتمع المدني والمتخصص في التراث الإنساني بمنطقة غرداية الأستاذ الجامعي حسين هني لـ "العربي الجديد"، تجارب الصلح بين المتنازعين في غرداية. ويؤكد أن منطقة وادي ميزاب تضم 7 جماعات، أحدها جماعة العزّابة. وكل عضو في الجماعة مكلف بمهمة معينة، وبينها محاولة تنفيذ صلح قبل اللجوء إلى إجراءات رسمية عبر وزارة العدل والمحاكم.

ويشير إلى أن "80 في المائة من المشكلات التي تقع في المجتمع المحلي تحل داخل حلقة العزّابة، حيث يتم الاستماع للأطراف، ثم تقديم تعهدات بوعود المتخاصمين ويكون المجلس هو الضامن لتنفيذ تلك الوعود. يضيف أن غالبية القضايا تحل عبر لجان عرفية، مشدداً على أن "أهمية العُرف في منطقة غرداية تجاوزت المؤسسات الرسمية على مرّ التاريخ. ومجلس ضمان الوعود هو أعلى هيئة دينية في المنطقة التي شهدت بين عامي 2007 و2014 أعمال عنف بين مجموعات سكانية، قبل أن تفك عمليات صلح النزاعات المحتدم في منطقة عرفت بالسلم والهدوء لقرون طويلة.

الصلح يعالج مشكلات اجتماعية كثيرة في الجزائر (فاروق بطيشي/ فرانس برس)
الصلح يعالج مشكلات اجتماعية كثيرة في الجزائر (فاروق بطيشي/ فرانس برس)

وبين الأحداث الكبيرة التي حلتها جماعات الصلح في المجتمع الجزائري، قضية ملكية أرض كادت أن تؤجج عام 2005 نار الفتنة في منطقة غرداية ذات الخصوصية الاجتماعية باعتبارها تضمّ فرع "الشعانبة"، وهم عرب، وفرع "الإباضيين" وهم من الأمازيغ. وانتهت بالصلح بفضل جماعة "العزّابة".

دور المساجد
وتلعب المساجد والزوايا الدينية دوراً بالغاً في إنجاز جلسات صلح بين عائلات أو مجموعات. وعادة ما تقام الجلسات فيها من أجل إضفاء طابع رمزي على عملية الصلح، خصوصاً أن مؤسسات المساجد ما زالت تحظى برمزية خاصة لدى المجتمعات المحلية، علماً أن كُثراً يرون أن بعض القضايا والخلافات الاجتماعية قد تتعقد أكثر في حال دخلت أروقة المحاكم. من هنا حققت جلسات الصلح في المساجد نجاحاً أكبر في فرض الأمن والوفاق الاجتماعي.

وعموماً، لا تتعارض عمليات الصلح العرفية مع قرارات المؤسسات الرسمية، إذ تحاول السلطات الجزائرية الإفادة منها بعدما تبنّت فكرة الصلح، وعملت على إلحاقه بالقانون المدني وتكييفه في ما يعرف بهيئات التحكيم والوساطة، أو "الوساطة القانونية"، كونها طريقة لفض نزاعات جنائية بناء على مفاوضات بين طرفي الدعوى الجنائية (الجاني من جهة والمجني عليه من جهة أخرى بتدخل عضو النيابة العامة ورقابته).
يقول المحامي نور الدين ساحلي لـ" العربي الجديد" إن "الوساطة القانونية نظام اجتماعي يسعى إلى تحقيق السلام بين أفراد المجتمع، ومساعدة الخصمين على تسوية النزاعات الحاصلة بينهما في شكل ودّي. وهذه عدالة غير قسرية أو بالأحرى ناعمة، وإحدى صور الصلح الجزائي التي يشترط فيها الاتفاق على جبر الضرر الملحق بالمجني عليه من خلال تعويضات، في مقابل استفادة الجاني من وضع حدّ للدعوى الجزائية التي يحتمل تحريكها ضده". 
وتحصل الوساطة التحكيمية عبر وسيط محوري يؤدي مع أطراف أخرى، بينها النائب العام والمحامي، أدوار مساندة. وبحسب القانون الجزائري تنتهي الوساطة بتنفيذ الاتفاق وانتفاء الدعوى العامة، والآثار الجزائية.

المساهمون