تعيش صبحية حماد (67 سنة) في مخيم الشاطئ بغزة، وهي تحافظ على العادات والتقاليد الفلسطينية الأصيلة التي ورثتها عن والدتها فاطمة، ومن بينها "الصحن الداير"، والذي تقوم من خلاله بتوزيع الحلويات والأطعمة المميزة مثل الفطائر والرمانية والخبيزة، أو أخرى موسمية ترتبط بمواسم الزراعة، على الجيران والأقارب.
تحب السيدة الفلسطينية أن تنشط في عمل هذه الأطباق خلال الأعياد الدينية والمناسبات الوطنية، وفي بداية فصول السنة المختلفة. تقول لـ"العربي الجديد": "اعتاد الفلسطينيون توزيع أطباق من وجبات مميزة يعدونها، أو حلويات ومعجنات على جيرانهم. منذ قرون، يقوم كثيرون بإرسال أطفالهم محملين بالأطباق إلى منازل الجيران والأقارب، وقد ساهمت المخيمات الفلسطينية في الحفاظ على هذه العادة ضمن أجواء تشهد أحياناً تنافس النساء على تحضير أشهى الأطباق".
تضيف: "تربيت على هذه العادة في مخيم الشاطئ عندما كنت طفلة في بداية الخمسينيات من القرن العشرين، وكنت أوصل أطباق الحلوى المنزلية والطبخ مثل الخبيزة والكشك إلى الجيران، وأذكر جيداً قول والدتي إن إطعام الكل يشعر بحلاوة أكبر، وأنا ما زلت أملك القوة المطلوبة لإعداد أطباق على طريقتي، وزوجات أبنائي ورثن مني هذه العادة التي لن أتركها حتى مماتي".
ويمتد أصل هذه العادة في كل بلاد الشام، لكن ذاع صيتها في فلسطين من خلال تناول الجيران الأطباق على مائدة واحدة تجمعهم، خصوصاً خلال شهر رمضان والمناسبات مثل الأعياد، لتتحوّل إلى إحدى تقاليد المجتمع الفلسطيني، ثم تحافظ مخيمات اللجوء عليها بعد النكبة، لتستمر حتى اليوم رغم الظروف الصعبة.
في حي النصر، تتمسك أم عماد ناجي (58 سنة)، بهذه العادة رغم أنها تلاحظ أنها تقلصت كثيراً عبر الزمن وتأثرت في زيادة نسب الفقر، وأن الجيل الحالي لا يرى أن العادة طريقة حضارية بل من العادات القديمة، وهو ما ترفضه "فالابتعاد عن العادات والتقاليد الاجتماعية يفقد الإحساس بالآخرين واللُحمة بين الناس. وفي شهر رمضان الماضي حرصت أن أعيد توزيع أطباق على جيراني، رغم أنني أعيش في وضع اقتصادي صعب".
وتخبر أم عماد "العربي الجديد" بأنها نشأت في مخيم جباليا للاجئين، شمالي القطاع، وكانت تنقل خلال طفولتها الأطباق بين منازل المخيم، وأنها تابعت ذلك عندما كبُرت. وتصف هذه العادة بأنها "مسؤولية اجتماعية لا يمكن أن توقفها أي أسرة في المخيم، حتى أنه في حال ملاحظة عدم إرسال إحدى الأسر أطباقاً تزورها النساء من أجل تفقد أحوالها، وسؤال أفرادها عما إذا كانوا يحتاجون إلى مساعدة، ما يظهر أهمية الإحساس بالظروف الاقتصادية للناس التي قد تجعلهم غير قادرين على إعداد أطعمة أو حلويات. وتقول: "كانت العادة تتمدد، وتبقى الأطباق أحياناً عند الجيران. وفي بعض الأحيان قد يخلق إرجاع طبق مشكلة. وأنا أوزع حتى اليوم الكيك والمعجنات والكعك والمعمول والطبق المميز إذا سمعت أن جارتي تشتهي أحدها، وهذه العادة بسيطة، لكن أبعادها الاجتماعية عظيمة، وأتمنى أن يفعلها الجميع وعدم نسيانها".
ويعتبر معلم مادة التاريخ المتقاعد، منصور أبو جزر (70 سنة)، في حديثه لـ"العربي الجديد"، أن "هذه العادات نتجت من أخرى توسّعت وتعايش معها المجتمع الفلسطيني، خصوصاً خلال فترة الستينيات والسبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين. كان الطبق الداير يزيد التآخي بين الجيران، ثم بات مثل أمر ملزم، قبل أن تظهر عادة إعداد طبق الحي، أي أن تحضر أسرة وليمة تكفي لإطعام منازل الجيران الذين يشاركون في إعداد الأطعمة".
ويلفت منصور أبو جزر إلى وجود عادات وتقاليد أخرى شكلت امتداداً لعادة الطبق الداير، مثل طعام الميتم، والذي يتمثل في إعداد الجيران أطعمة على امتداد ثلاث وجبات لعائلة المتوفى والمعزين، وهناك أيضاً إعداد الطعام للأسرة في حال كان عائلها مريضاً.
ويقول أبو جزر: "الطبق الفلسطيني له رمزية كبيرة عبر التاريخ، فهو يعكس الترابط الاجتماعي، خصوصاً أن الكثير من المأكولات لا تؤكل إلا جماعياً، علماً أنه من العيب رفض المشاركة في جلسة الجماعة، ومن هنا يشكل جزء من هذا النشاط مساهمة اجتماعية. في السابق كان يحب الفلسطيني الفقير أن يساهم في الطعام، وحالياً يستعيد المجتمع في قطاع غزة بعض هذه العادات والتقاليد لأنه يفتش عن القديم الجيد في ظل الواقع الصعب والانقسام".