الصحة النفسية حاجة ملحّة في لبنان تصطدم بغياب الدعم

05 فبراير 2023
خلف انفجار مرفأ بيروت تأثيرا كبيرا على اللبنانيين (جوزيف عيد/ فرانس برس)
+ الخط -

"نشأت معظم طفولتي مع جدّتي. أذكر أنّني أمضيت سنواتي الأولى معها بسبب العنف الذي كنت أتعرّض له من أمي، فكانت جدّتي تدافع عني. وعلى الرغم من عدم وجود أيّة مشاكل بين أمي وأبي، لكنهما اختارا أن أبقى خارج منزلنا، فأخذت الحب والاهتمام منها".

هذه حكاية رواد (اسم مستعار)، وهو شاب في الحادية والعشرين من عمره، أنهى دراسته ويعمل في مجال خدمة العملاء، إلى جانب كونه متطوّعاً اجتماعياً. بدأ رحلته مع العلاج النفسي في عمر السابعة عشر.

يقول: "بدأت العلاج النفسي بعد فراق شخص عزيز علي. اكتشفت العديد من الأمور العالقة في داخلي التي كنت بحاجة لمعالجتها. كنت أعيش في محافظة البقاع، لكن الظروف أجبرتني على الانتقال إلى العاصمة بيروت، فأصبحت الجلسات عن بُعد. لم يكن الأمر مريحاً بالنسبة إلي، فبدأت بمتابعة الجلسات مع جمعيّة ضمن بيروت، لكنها كانت محصورة بست عشرة جلسة فقط. شُخّصت حالتي بأنها اكتئاب. وفي بداية العلاج النفسي، حاولت الانتحار مرّات عدة. اليوم، توقّفت عن العلاج بسبب اقتصار برنامج الجمعيّة على عدد محدّد من الجلسات، وبسبب عدم قدرتي على التوجه إلى مختص نفسي من خارج نطاق الجمعيّات، فالعلاج الآن مكلف جدّاً".
ويعود رواد بالذاكرة إلى ظروف طفولته. "أهلي رموني عند جدتي. منعني أهلي من اللعب مع باقي الأطفال كي لا أؤذيهم بسبب كبر حجمي، فكبرت وأنا لا أعرف كيف أواجه أيّة مشكلة مع الآخرين، أو كيف أبني أي نوع من العلاقات. كما تعرّضت للتنمّر في المدرسة بسبب سلوكي الأنثوي، كما كان يقال لي، وأيضاً بسبب زيادة الوزن. عندما أخبرت أهلي بالأمر، لاموني لأنني لم أدافع عن نفسي، ففضّلت عدم إخبارهم لاحقاً بما أتعرّض له وصرت أخاف أن أتكلّم".
يصف رواد علاقته بأمه بالسامة، إذ بلغ به الظن أن لا أحد يحبه وبأنه غير جدير بالحب، وبأنه شخصٌ سيء، إلى أن أدرك أنه بحاجة للعلاج رغم اعتراض أبيه وقوله: "هل أنت بحاجة لامرأة لتقول لك ماذا تفعل؟". 

لا تثمر الجلسات النفسية دوماً حلولاً ناجعة

سمح العلاج النفسي لرواد بتحسين علاقاته مع الآخرين، إذ تصالح مع نفسه. أمّا اليوم، ورغم تأكيد تقرير الجمعيّة عدم خطورة توقفه عن العلاج، فإنّ رواد يشعر بالحاجة إلى تلقي الدعم النفسي من خلال العلاج، لكن وضعه المادي يحول دون ذلك.

"كانت طفولتي القاسية والصادمة سبباً للعديد من المشاكل التي لم أعرف أساسها أو كيفية معالجتها"، كما تقول الثلاثينية دانا (اسم مستعار) وهي متزوجة وتعمل في مجال الإدارة. "عام 2016، بدأتُ أشعر بأنني لست بخير. ثقتي بنفسي وبالآخرين صفر. انتابني خوف من أن أُترَك، وكنت بمثابة مغنطيس للرجال السامين الذين يدخلون حياتي ويعتمدون علي في كل الأمور. يستنزفونني مادياً وعاطفياً ونفسياً، ويعزلونني اجتماعياً حتى عن أصدقائي. لم أكن أعرف سبب ما يحصل معي، فأنا فاعلة في المجتمع، وشخصيتي قوية، وحققت نجاحات عدّة. فلماذا أتحوّل إلى شخص ضعيف في الحب والصداقات؟".

تضيف: "كانت علاقاتي غير صحية، وكنت أبرّر استغلال الآخرين لي. أدركت أنني بحاجة للمساعدة، فتواصلت مع طبيب أعطاني علاجاً. لم أعد أتفاعل مع أي شيء، لا الفرح ولا الحزن. حتى إنني توقفت عن القيام بأعمالي اليومية، لأعرف لاحقاً أنّ أحد الأدوية كان لمرض الصرع، فتوقفت عن تناول الأدوية لأعلم لاحقاً بخطورة التوقف عنها فجأة". 

يحاول اللبنانيون الاستمرار رغم الضغوط الكثيرة (جوزيف عيد/ فرانس برس)
يحاول اللبنانيون الاستمرار رغم الضغوط الكثيرة (جوزيف عيد/ فرانس برس)

بعد معاناة صحية طويلة، توجّهت دانا إلى معالجة نفسية وطبيب أعصاب. "بعد عشر دقائق من جلستي معه عن بُعد، شخصّ بأنني أعاني من الاضطراب ثنائي القطب (عبارة عن حالة صحية عقلية تتسبب في تقلبات مزاجية مفرطة تتضمن الارتفاعات - الهوس أو الهوس الخفيف، والانخفاضات العاطفية)، فوصف لي دواء خاصاً بتقلّب المزاج، رغم أنني شرحت له أنني لا أعاني من تقلّب مزاج، لكنه أصرّ على تشخيصه". لم يأتِ العلاج بنتيجة، فتركت دانا جلسات العلاج وتخلّت عن الدواء تدريجياً، بعدما بدأت آثاره الجانبية تظهر عليها، إذ يصيبها بالتخدير الدائم، وعدم التفاعل مع الأحداث.
توقفت دانا عن تلقّي أي علاج بسبب التكاليف الباهظة وعدم جدوى التشخيص والجلسات. "ليس من المنطقي ألّا يتوفّر دعم نفسي مجاني للجميع، وأن ينتحر بعض الأشخاص بسبب عدم وجود داعمين متخصصين. ومن الخطير جدّاً أن يتحوّل العلاج النفسي إلى ترند على وسائل التواصل الاجتماعي، فتنتشر نصائح من غير المتخصصين، عدا عن استغلال المرضى مادياً على نطاق واسع".

بعض الأشخاص في حاجة إلى دعم شخصي لتخطّي الاكتئاب

"بعد علاقة عاطفية صعبة، عشت الاكتئاب"، تقول سلام (اسم مستعار) وهي سيدة أربعينية تعمل في مجال الكتابة. "تأثرت صحتي الجسدية وامتنعت عن القيام بالعديد من الأعمال، وأصابني صداع في الرأس ما اضطرني للقيام بفحوصات وتخطيط دماغ لمعرفة السبب، فرجّح الطبيب أنه اكتئاب ونصحني بالدعم النفسي من دون دواء. بدأت العلاج عام 2021 واستمرّ لمدّة ثمانية أشهر. كانت جلسات مكثفة ومكلفة إذ كنت أدفع مائة دولار للجلسة الواحدة، لكنني كنت أقول إنني أستحق أن أهتم بصحتي النفسية". 
فقدان سلام عدداً من أصدقائها أعادها إلى دوّامة الاكتئاب، لكنها لم تتمكّن من متابعة جلسات العلاج بسبب كلفتها المرتفعة، فقرّرت أن تطبّق آليات احتواء القلق والاكتئاب بنفسها. 
تقول مديرة ومطوِّرة مشاريع في مجموعة "نون التضامن" النسوية فرح أبي مرشد: "الدولة غير معنية بقضايا الشعب، إذ رفعت الدعم عن أدوية عدّة، منها أدوية الصحة النفسية، رغم الحاجة الملحّة لهذه الأدوية، عدا الفوضى وعدم وجود رقابة على قطاع الأدوية. والمخيف هو صمت نقابة المعالجين النفسانيين، وعدم اتخاذها أي إجراء أو خطوات فاعلة لمواجهة خطورة انقطاع الدواء، وتراجع الخدمات الصحية، وتفلّت أسعار الجلسات العلاجية". 

وعن دور الجمعيّات، توضح أبي مرشد: "أقدمت الجمعيّات على التدخل ومحاولة حلّ أي مشكلة في موضوع الصحة النفسية، ولكن تواجهنا اليوم اعتبارات عدة لها علاقة بالأمان والخصوصية وأماكن الجلسات، كما نظرة الجمعيّات لأصحاب الدخل المحدود الذين هم بحاجة لهذه الخدمات. وهل هناك مستوصفات تدخل العلاجات النفسية ضمن خدماتها؟ وكذلك الأمر بالنسبة لتدريب الموظفين على كيفية التعاطي مع هذه الحالات".
كما تؤكد أبي مرشد أنّ "الأزمة الاقتصادية ساهمت في ارتفاع الطلب على خدمات الصحة النفسية بسعر رمزي أو شبه مجاني، ما أثّر سلباً على القدرة الاستيعابية للجمعيّات ذات التخصّص. لكن يجب أن يجري اعتماد خطط بديلة، كالعمل على التمكين في تقنيات الرعاية الفردية والرعاية الجماعية، وتعميمها وصولاً إلى الأماكن البعيدة عن مراكز الخدمات، والتوعية حول الصحة النفسية، والتنبيه من خطورة استخدام المهدّئات والمنوّمات بشكل عشوائي"، مشيرة إلى أنّ عدم وجود قانون يحمي المرضى، وغياب دور النقابة، يفاقمان الوضع الذي سبّبته الأزمة الاقتصادية الراهنة. 

العلاج النفسي صعب لكن تداعيات عدم العلاج أصعب

عروة (اسم مستعار) شاب سوري ثلاثيني، يعمل في مجال التسويق، شُخّص عام 2018 بالاضطراب ثنائي القطب، وبدأت رحلة علاجه في سورية، ليتابعها في لبنان قبل أن يتوقّف عن العلاج، إثر انهيارات عدة تعرّض لها. يقول: "ولدت في عائلة مكوّنة من ثلاثة أولاد وأمي وأبي. أنا الابن الأوسط في العائلة. كان أبي يعمل في السلك العسكري وكان قاسياً بشكل مجحف، عكس أمي التي كانت حنونة جدّاً، فكنت أكثر من يتحمّل الظلم والأسى، كما كنت أسبّب الأذى للآخرين وأتلقّى العقاب أيضاً. كبرتُ وأنا أعاني من مشاكل تقلّب المزاج. عام 2018، بدأ الأمر يؤثّر على عملي ويسبّب لي المشاكل بفعل نوبات الاكتئاب التي كنت أتعرّض لها. شُخّصت بالاضطراب ثنائي القطب من الدرجة الثانية. اقتنعت بضرورة البدء بالعلاج وأخذ الدواء، لكنني لم أستمرّ به، إذ إنّ الاضطراب يسيطر على مزاجي وسلوكياتي".
خاض عروة تجربة زواج فاشلة، ما ساهم بازدياد الضغط عليه، وبلغ مرحلة الأذى الشخصي، وبات يشكّل خطراً على نفسه، كما أفاده طبيبه. بسبب ارتفاع كلفة جلسات العلاج، لجأ عروة إلى جمعيّة تقدّم خدمات مجانية، لكنه حظي بموعد بعد ستة أشهر. وبسبب حاجته لجلستين أسبوعياً، بات مضطرّاً لتحمّل الكلفة بنفسه وهو ما لم يكن ضمن قدرته، فعاد إلى تناول الدواء رغم حاجته الملحّة للجلسات العلاجية كي يتمكّن من متابعة حياته بشكل سليم.

الأزمة المالية فاقمت الضغوط على اللبنانيين (حسام شبارو/ الأناضول)
الأزمة المالية فاقمت الضغوط على اللبنانيين (حسام شبارو/ الأناضول)

أما ريهام (اسم مستعار) وهي فتاة عشرينية، فقد هربت مع عائلتها من سورية إلى لبنان خلال عام 2022 بسبب الوضع السياسي. "بدأت فكرة العلاج لدي عندما كنت في الرابعة عشر من عمري. شعرت بالاختلاف عن صديقاتي في المدرسة لناحية ثقتي بنفسي، والقلق والخوف من مشاعر الناس تجاهي، وهو شعور يرافقني حتى اليوم. قمت بزيارة واحدة للطبيب في عمر التاسعة عشر، وكانت تجربة سيئة جداً. أخبرته ما أعاني منه، فنصحني بالخروج من العالم المثالي الذي أتوّهمه، على الرغم من أنني كنت أشكو له وضعي الذي يعيشه معظم المواطنين السوريين".
تتابع ريهام: "في لبنان، لم يكن لدي الخيار بالتوجه إلى معالجين بسبب الكلفة الباهظة، وعدم قدرتي على تغطيتها، فكل ما أفكر به هو تأمين الحاجيات اليومية، علماً أنّ اختلاف الحياة وتغيّر البيئة التي كنت أعيش ضمنها أدّيا إلى زيادة القلق والتوتر لدي، لكن لا مجال للعلاج النفسي حالياً رغم ضرورته".
إلى ذلك، تؤكد المعالجة النفسية والباحثة في علم النفس مريم مازح، أنّ "الصحة النفسية لا تنفصل عن الصحة الجسدية أبداً. كما يهتمّ الإنسان باحتياجاته الجسدية، عليه أن يهتمّ بصحته النفسية، لأنّ الصحة النفسية تؤثر بشكل كبير على الصحة الجسدية، فهناك العديد من الأمراض الجسدية التي لها جذور وأسباب نفسية. وأثبت عدد من الدراسات أنّ الغضب والتوتر المكبوتان داخل الإنسان والمشاعر التي لا يعبّر عنها لها علاقة بتراجع صحته، لذلك علينا الاهتمام بصحتنا النفسية قبل الصحة الجسدية". 
وتشير إلى أنّ أي مريض يلجأ إلى المعالج النفسي عليه أن يكمل حتى النهاية، إذ إنّ توقف المريض عن الجلسات العلاجية هو بمثابة فعل المقاومة للمعالج كنوع من العقاب إذا ما لمس المعالج جرحاً لدى المريض لم يرغب هذا الأخير بكشفه، فيتوقف لفترة كردّة فعل تجاه المعالج، ثم يعود لمتابعة جلساته بشكل طبيعي. وقد يودّي التوقف عن إكمال العلاج إلى حالة اكتئاب قد تصل إلى حدّ الانتحار". 

وتردف مازح بأنّ "تخلّي المعالج عن مرضاه هو عمل غير إنساني. أهم المبادئ المتعارف عليها في مهنة الطب أنها مهنة إنسانية، وإذا اضطرّ المعالج لأن يقوم بالعلاج النفسي لمريض مجاناً، لا يجب أن يتوانى عن فعل ذلك، على الرغم من الضغط الاقتصادي الذي قد يتعرّض له المعالج. فالمعالج هو بمثابة خشبة الخلاص بالنسبة للمريض الذي يلجأ إليه، فممنوع عليه سحب هذه الخشبة من أمام المريض كي لا يؤذيه". تضيف مازح: "هناك قول شهير أؤمن به: نحن نخيط جراحاً لا ترونها، وأن تقوم باختياري ملجأ يعني أنك بمأمن مهما كلّفني الأمر".
أطلقت منظمة الأمم المتحدة للطفولة "يونيسيف" في لبنان والبرنامج الوطني للصحة النفسية في وزارة الصحة العامة خلال عام 2022 حملة على وسائل التواصل الاجتماعي تحت عنوان "UNMUTE الصحة النفسية"، تتناول قضايا الصحة النفسية التي يواجهها الشباب في لبنان خلال الأزمة الحالية. وتحثّ الحملة على التعبير وطلب الدعم من الأصدقاء أو من العائلة أو عن طريق الاتصال بالخط الساخن للصحة النفسية الوطنية. كما تقدّم الحملة نصائح للعناية بالصحة النفسية، وهدفها الأساسي زيادة الوعي حول ما يمكن القيام به لحماية الصحة النفسية لدى الشباب، مع الاعتراف بالأشياء التي يجب معالجتها والتي ليست ضمن سيطرتهم، فيشمل تأثيرها زيادة معرفة الشباب والشابات بما يمكن القيام به، من قبلهم كأفراد ومن قبل مقدّمي الرعاية لهم، لحماية صحتهم النفسية.

المساهمون