أتعبت حياة النزوح سكان المناطق المحاذية لخطوط التماس بين فصائل المعارضة والنظام في شمال غربي سورية، لذا يتحاشون تحت أي ضغط تكرارها، ويصرّون على التمسك بفكرة أن تحمّل القذائف والقصف أهون عليهم من تحمّل تكاليف النزوح ومشقاته.
يفضّل أهالي منطقة جبل الزاوية جنوبي إدلب شمال غربي سورية، وهي من بين الأكثر تعرضاً لقصف قوات النظام وتلك الروسية والمليشيات الإيرانية، البقاء في قراهم وبلداتهم لأسباب كثيرة يتحدث عنها خالد رسلان الذي يسكن في قرية فريكا بالقول لـ"العربي الجديد": "يفضل الناس البقاء تحت القصف وعدم النزوح لأسباب عدة منها أن مصادر رزق غالبيتهم هي أراضٍ يعملون فيها. والحقيقة أن الأهالي تعبوا من النزوح والتنقل والترحال وقلة العمل في مناطق التي سبق أن نزحوا إليها، وأيضاً من ارتفاع الإيجارات وغلاء الأسعار وقلة المداخيل، لذا يفضلون عدم النزوح والبقاء تحت القصف. ولا يُخفى أيضاً أن القصف خلق لدى الناس التحدي بأنه مهما قصف النظام المنطقة فهم لن يغادروها ولن يتركوا بيوتهم فيها وسيعودون إليها. والمقولة الراسخة لديهم اليوم إن الإنسان لا يحمله إلا بلدته وبيته".
في العادة يغادر الأهالي إلى المناطق البرية خلال أوقات القصف ويعودون حين ينتهي. ويعمل معظم أهالي جبل الزاوية في الزراعة وأشجار الكرز والمحلب والزيتون، وتحصل عمليات قصف كثيرة خلال عمليات جني المحاصيل، ما يتسبب في سقوط ضحايا.
ويخبر محمد حاج طه الذي يسكن في قرية معراتا بمنطقة جبل الزاوية "العربي الجديد" أن القصف لم يختلف عن السابق لكن وتيرته ارتفعت إلى حد ما، ويشمل مناطق لم يستهدفها النظام سابقاً حين كان يركز على محيط خطوط التماس. وبات القصف يطال أماكن أبعد من خطوط التماس". يتابع: "شخصياً نزحت مرات منذ بداية الثورة لكنني أفضل حالياً البقاء في مكاني حالياً، وعدم تكرار التجربة لتجنب الصعوبات التي قد تواجهني. أفضل أن أبقى وأموت في بيتي بسبب ما عانيته حين انتقلت سابقاً إلى إدلب، وبعدها إلى منطقة ثانية، وعاد أهلي إلى القرية، وأنا حالياً خارجها".
وعادت معظم العائلات التي تجني مداخيلها من الأراضي الزراعية، بعدما أرهقها عدم وجود مداخيل تسمح ببقائها في المدن والبلدات التي نزحت إليها. ويقول عامر حاج بكري من أبناء منطقة جبل الزاوية لـ"العربي الجديد": "منطقة جبل الزاوية حدّ فاصل ومنطقة عسكرية بين قوات النظام وقوات الفصائل، فقوات النظام تتواجد على أطراف جبل الزاوية، وهي منطقة جبلية يقسّم بينها طريق دولي في الشرق وغرب يمتد من أورم الجوز غربي مدينة أريحا إلى مدينة كفرنبل". يتابع: "وصل النظام إلى أطراف جبل الزاوية الذي بات منطقة عسكرية تتعرض لقصف بالمدافع والراجمات وغارات جوية مرات عدة يومياً أحياناً. سبق أن نزح الناس من المنطقة، لكنهم واجهوا صعوبات كبيرة جعلت قسماً منهم يبقى في بلدات النزوح بريف إدلب الشمالي، في حين عاد قسم آخر، وهو الأكبر. البقاء تحت القصف قد يكون أخف وطأة من عدم امتلاك كثيرين القدرة على تأمين الغذاء والسكن والاحتياجات، لذا يعودون إلى قرى وبلدات جبل الزاوية رغم استمرار القصف. ويمكن أن يلجأ الناس إلى مغارات وكهوف صخرية قريبة أو يسلمون أمرهم إلى الله، وهذا الخيار الأول لمن لديهم أراضٍ فيها زيتون أو محلب يعتمدون عليها في المداخيل، لكن أوضاعهم تبقى صعبة جداً في منطقة عسكرية مأهولة، والناس يتوقعون مواجهة القصف المدفعي في أي لحظة، ويعيشون في خوف ورعب وبؤس".
ومن الأسباب التي تدفع أهالي المناطق التي يستهدفها القصف الدائم للبقاء في بيوتهم ارتفاع إيجارات المنازل وقلة فرص العمل. هذا ما يشير إليه أحمد العبدو الذي يقيم في ريف حلب الغربي الذي يقول لـ"العربي الجديد": "كانت قيمة إيجارات البيوت قليلة في بداية النزوح ثم ارتفعت، وحالياً لا عمل أو مردود، وكل الأماكن تتعرض لقصف. يمكن أن أحضر بثمن إيجار بيت، الطعام لأولادي لذا أفضل البقاء في القرية رغم القصف والظروف الصعبة التي شملت أيضاً الأماكن التي نزحنا إليها، ما ساهم في عودتنا إلى بلداتنا أيضاً".
ويقول الناشط محمد المعراوي لـ"العربي الجديد": "أي مواطن يقطن في جبل الزاوية يجب أن ينظر إلى السماء بشكلٍ متقطع يومياً، لأنها لا تخلو من طائرات الاستطلاع الروسية أو الإيرانية التي تزود طواقم المدفعية والصواريخ ببنك أهداف، وتعطيها إحداثيات لتنفيذ ضربات بمختلف أنواع الأسلحة. وهذه الإحداثيات لا تكتفي بتحديد أماكن الأهداف العسكرية، بل توفر معلومات عن كل أماكن المنطقة ويعتبر أي شخص هدفاً لها. ويومياً تطلق بين 100 و200 قذيفة وصاروخ على عدد يتراوح بين 5 و10 بلدات في جبل الزاوية. وفي حال زاد التصعيد يرتفع عدد القذائف وتتوسع رقعة الاستهداف لتطاول قرى وبلدات أخرى أبعد من القرى القريبة من خطوط التماس". يضيف أن "معظم أراضي منطقة جبل الزاوية تلال وحقول زراعية، وهي مكشوفة لقوات النظام والمليشيات المرتبطة بروسيا وإيران، وهناك طرقات عدة مغلقة بالكامل بعدما قصفتها قوات النظام بصواريخ كورنيت، لذا يجب دائماً توخي الحذر من أي استهداف مفاجئ، علماً أن كذبة خفض التصعيد مكشوفة منذ زمن".
وفي تقرير أصدره في 4 يناير/ كانون الثاني الجاري، أوضح الدفاع المدني السوري أن حدّة الهجمات ارتفعت خلال الأشهر الأخيرة من العام الماضي بعد تصعيد النظام وروسيا عمليات القصف، ما ضاعف مأساة السوريين، وتسبب في موجات نزوح جديدة، وقوّض العملية التعليمية وسبل العيش في شمال غربي سورية.
ووثق فريق "منسقو استجابة سورية" ارتكاب النظام السوري وحلفائه، إضافة إلى "قوات سورية الديمقراطية" (قسد) 11 مجزرة في منطقة شمال غربي سورية، خلال العام الماضي، شهدت مقتل 70 شخصاً بينهم نساء وأطفال وجرح 171. وأشار إلى أن التصعيد العسكري لقوات النظام على المنطقة تسبب في نزوح أكثر من 112 ألف شخص، وألحق خسائر مادية بـ 93 منشأة، منها 20 مخيماً و40 منشأة تعليمية و18 منشأة صحية.