السوريون المفقودون... ثالوث المصير المجهول

30 نوفمبر 2020
مهاجرون على الحدود التركية - اليونانية (إسلام ياقوت/ الأناضول)
+ الخط -

خلال سنوات الحرب الطويلة في سورية، اختفى مواطنون كثر، سواء في محاولتهم الهروب من البلاد نحو مستقبل أفضل في أوروبا، أو في سجون النظام. وبينما تأكدت وفاة البعض فإنّ كثيرين ما زالوا مجهولي المصير

لطالما سمعنا عن غرق قوارب تحمل مهاجرين متجهين إلى أوروبا، وضعوا أرواحهم على أكفهم ومضوا فوق جناح الأمل، بعدما رموا خوفهم خلف ظهورهم، ولطالما غرقت قوارب تحملهم، ليصبح كثيرون منهم ذكريات ضائعة في بطن البحر. هكذا، كان البحر والحدود البرية من العوائق أمام السوريين المتطلعين للأمن خارج بلادهم، ممن حرمهم النظام من جواز سفر يتيح لهم كسر قيود غرسها فيهم ووصلت إلى عظامهم، فيما غيّب غيرهم في سجونه ومعتقلاته.

المرأة
التحديثات الحية

في أواخر عام 2017، كان الشاب تيسير من ريف حمص الشمالي، قد أقدم على مغامرة خطرة، نهايتها لم تكن متوقعة، كما يقول فاروق محمد أحد أصدقائه لـ"العربي الجديد". فالشاب الذي كان يدرس الطب البيطري في جامعة حماة، وسط سورية، عندما غادرها إلى ليبيا سعياً وراء مستقبله، لم يجد مبتغاه هناك. يقول محمد: "كان تيسير شاباً طموحاً لا يخاف من العواقب، فالظروف ساقته لمغادرة ريف حمص وترك الدراسة في حماة، ليذهب في رحلة صعبة إلى ليبيا، حيث أقام فترة، ومن ثم اتخذ خيار التوجه إلى أوروبا، ليتابع دراسته في الدرجة الأولى ثم بدء حياة جديدة مستقرة رسمها بعيداً عن سورية". 
يضيف محمد: "تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن... هذا في الحقيقة ما حدث لصديقي، إذ فقد في البحر خلال توجهه إلى إيطاليا مع مجموعة من الشبان كانوا برفقته، انطلقوا من ليبيا، لربما نحو حتفهم أو مستقبلهم. ومنذ فقد في البحر لم يُعرف أيّ خبر عنه. لربما نالت روحه السلام في هذه الرحلة المأساوية وكانت أمواج البحر وبرده آخر ما رآه في هذه الحياة الكئيبة، الحياة التي سلبنا البحر فيها أعزاءنا وأحبابنا".

الصورة
معتقلون لدى "قسد" عام 2019 (فاضل سنّا/ فرانس برس)

في هذا الإطار، تقول المسؤولة في مشروع "المهاجرون الضائعون" مارتا سانشير ديونيس: "تمكنّا من تحديد جنسية 497 غريقاً سورياً، من بينهم 219 على الأقل في شرق البحر المتوسط، و278 في المنطقة الوسطى من البحر المتوسط" منذ بدأ المشروع عمله في عام 2014. وتشير ديونيس إلى أنّه تم تسجيل وفاة 298 سورياً، في مناطق أخرى، 265 شخصاً منهم في تركيا، والعراق، ولبنان، و33 شخصاً خلال محاولة العبور إلى أوروبا براً، مضيفة أنّه تم تحديد غرق 67 طفلاً سورياً، 53 منهم في شرق البحر المتوسط، و14 طفلاً في وسط البحر المتوسط، موضحة أنّ الأرقام هذه غير دقيقة، وأنّها أقلّ بكثير من الأرقام الحقيقية.
كُتبت للبعض النجاة كما يروي محمد عبيد (22 عاماً) من بلدة مغارة مرزة بمنطقة معرة النعمان بريف إدلب الجنوبي، لـ"العربي الجديد" قصة نجاته من البحر عام 2018. يقول: "تسع ساعات قضيتها في الماء على ظهري، وكانت أول مرة أنزل فيها إلى البحر وآخر مرة، وبتّ أخاف الآن من منظر الماء. لم يفصل بيننا وبين الموت سوى خيط من الأمل، وبالفعل مرت بالقرب منا سفينة فيليبينية وبمشيئة القدر تعطلت، عندها سبح ربان قاربنا باتجاهها، وأبلغنا بعد انتشالنا أنّ طاقم السفينة أخبر خفر السواحل في قبرص بموقع غرق قاربنا، وحينها رأينا زوارق النجاة تقترب منا ونحن بلا حول ولا قوة وغير قادرين على الصراخ". يتابع عبيد: "جاءت الزوارق إلى نقطة محددة بعيدة عنا، وفي ما يبدو جرفنا الموج بعيداً عن  الإحداثيات التي حددت لهم، وهنا فقدنا آخر أمل بالنجاة وأيقنّا أنّنا غارقون لا محالة. لكن بعد دقائق مرت مروحية من فوقنا، وعادت الزوارق وبدأت بانتشال الناس، وكنت منهم". 
عمار ومحمد العموري شقيقان كانا يحلمان بأوروبا، والمستقبل المشرق هناك، لكنّ دفتر الحلم طوت صفحاته مأساة، أو فاجعة كما يقول ياسر، والد الشابين لـ"العربي الجديد". يوضح أنّ ابنيه فُقدا من دون أثر في مدينة فتحية التركية خلال محاولتهما العبور إلى اليونان، عبر بحر إيجه، في السابع والعشرين من مارس/ آذار 2019. يتابع الوالد: "حاولنا طوال الفترة الماضية الوصول إلى أيّ خبر عنهما، من دون جدوى، وأنا كأب أرجو أن أصل إلى خبر يقين كي يطمئن قلبي وقلب والدتهما ونعرف ما حلّ بهما، فهل ما زالا على قيد الحياة أم لا؟ هل اختطفا أو ضلا الطريق وتاها من دون عودة؟ كلّ هذه الأسئلة تجول في خاطري على الدوام، لكن ليس لي سوى الصبر". 

يتابع والد الشابين: "الأمل موجود في أن يعودا إلينا ويعود الفرح إلى البيت، وتذهب هذه الغمامة السوداء عن القلوب، ويزول معها كلّ الحزن الذي لا مفر منه، فالترقب أصعب بكثير من معرفة المصير، فلو أنّهما توفيا لكان الحزن عليهما تضاءل بعد أشهر على فراقهما، لكن في الوقت الحالي، يرافقنا الانتظار والأمل والحزن طوال الوقت لجهلنا بمصيرهما". ويختم والد الشابين: "سمعت عن أشخاص غرقوا في البحر خلال التوجه إلى أوروبا وأشخاص اختفوا داخل سورية، مصيرهم غير معروف، لذلك أرى من الضروري إنشاء تجمع لذويهم لمحاولة معرفة مصيرهم، لكنّه ليس أمراً سهلاً ويحتاج إلى تدخل جهات حقوقية وغيرها من جهات تقصٍّ متخصصة يمكنها ربط الخيوط ببعضها لمعرفة ما حلّ بهؤلاء المختفين".
من جهته، فإنّ عامر الأحمد، من قرية الشيخ بركة، في الريف الشرقي لمعرة النعمان، واحد من آلاف السوريين الذين ما زال مصيرهم مجهولاً في سجون النظام، فلا هو حيّ يمكن لأهله أن يطمئنوا عليه، ولا فارق الحياة التي قد تكون أقسى من  الموت بحدّ ذاته في سجون النظام التي يعيش فيها المعتقل ألواناً من العذاب. شجاع الإسماعيل، قريب عامر، يقول لـ"العربي الجديد" إنّه كان يعمل في الزراعة وهو مجرد إنسان عادي لم يكن لديه انتماء إلى أيّ جهة أو طرف حينها، في الوقت الذي كانت فيه حواجز قوات النظام تنتشر بكثافة في مناطق محافظة إدلب. يتابع أنّ "آخر ما عُرف عن عامر عام 2012 أنّ حاجز وادي الضيف اعتقله، ومنذ ذلك الوقت لم يُعرف عنه شيء بالرغم من المحاولات والوساطات للوصول إلى خبر عنه، كما دفعنا أموالاً وتوسطنا لدى أحد أعضاء مجلس الشعب (البرلمان) للوصول إلى معلومة عن مكان اعتقاله وإذا ما كان حياً أو قتل تحت التعذيب لكن من دون جدوى، فالأخبار التي وصلتنا عنه كانت غير مؤكدة".

الصورة
أنقذهم خفر السواحل الإسباني عام 2017 (ديفيد راموس/ Getty)

دياب سرية، أحد مؤسسي "رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا" يقول لـ"العربي الجديد": "قضية المفقودين والمخفيين قسراً هي قضية رئيسية خلال الثورة، وتشكل تحدياً كبيراً لمستقبل سورية، القريب والبعيد، فآلاف الناس اعتقلوا وأُخفوا وغُيّبوا في السجون، ما زال مصيرهم مجهولاً حتى الآن. هؤلاء سيكون مصيرهم تحدياً لأيّ عملية سياسية على علاقة بمستقبل سورية، ولا يمكن أن نقول أين وصل العمل بهذا الخصوص، كونه لن ينتهي خلال عام أو عامين أو حتى ثلاثة وربما يستغرق عشرة أعوام إذا لم نعرف مصير هؤلاء المختفين. هي قضية رئيسية، وهي أكثر سلاح فتاك استخدمه النظام ضدّ كلّ من عارضه، وهذا السلاح يعادل البراميل المتفجرة إن لم يكن أشد خطورة". 
يتابع: "للأسف، ليست هناك إحصائيات حول المفقودين، ولا جهات تتواصل مع أسرهم. كانت هناك إحصائيات قدمتها المنظمة الدولية للهجرة لكنّها لم تكن دقيقة، ومحدثة. في المجمل لا توثيق لهذه الحالات خصوصاً أنّ العملية معقدة وصعبة التوثيق". أما الجهات المسؤولة بالدرجة الأولى عن المخفيين قسراً ضمن حدود سورية كما يقول سرية، فهي بالمرتبة الأولى النظام السوري، تليه الفصائل الإسلامية المتشددة مثل تنظيم "داعش" وجبهة النصرة، وفي المرتبة الثالثة المعارضة المسلحة بمختلف تشكيلاتها، تليها "قسد"، وهي الجهات الأربع الرئيسية في القضية. يتابع أنّ اعتراف النظام بهذا يعادل سقوطه، فلا يمكن أن يعترف باعتقال أشخاص وإخفائهم وقتلهم تحت التعذيب، وهي من أكثر القضايا الشائكة في الملف السوري، خصوصاً أنّ النظام ينكر تماماً أيّ حالة إخفاء قسري فهي إدانة ضده تعادل جريمة حرب.

يضيف سرية: "مصير معظم المخفيين قسراً هو الموت للأسف، ومن الصعب إثبات مكان حدوث القتل ومن المسؤول. ولا يمكن كشف مصير هؤلاء إلاّ في حال سقوط النظام، والتحرك الجدي على مستوى دولي، فحتى في حال سقوط النظام ليست لدينا كسوريين قدرة على كشف المقابر الجماعية ومعرفة الجثث". ويقول سرية إنّ إنشاء روابط لمعرفة مصير المفقودين في البحر أو عبر الحدود، أمر مهم جداً، مشيراً إلى أنّ ضرورة تكتل أهالي الضحايا بمختلف تصنيفاتهم في سورية، وتوحيد صوتهم لتخفيف المعاناة أولاً، كما إيصال صوتهم الذي لا بدّ من حضوره في كلّ محفل، كونهم من أكثر الناس تضرراً، خصوصاً أنّ الجميع يحاول تكميم أفواههم. يعلق: "وجود هذه الروابط يحافظ على الحقوق في المرحلة المقبلة".

المساهمون