يُؤثّر الانتشار الكبير لمتحوّر "أوميكرون" لفيروس كورونا الجديد، الذي رُصد لأول مرة في جنوب أفريقيا، على معظم البلدان، ويُكرّس غياب العدالة بين الدول المتقدمة والنامية. وتتصرّف الدول الغنية بأنانية، من خلال تركيز اللقاحات المضادة لكورونا في مجتمعاتها، ما دفع الخبراء إلى التحذير من خطورة الأمر، وذلك ربيع العام الحالي، باعتبار أنّ ترك الدول النامية من دون لقاحات لن يؤدي إلى الحد من الوباء.
ويبدو أنّ دول الشمال الأوروبي أكثر راحة بالمقارنة مع دول جنوب القارة، في ظل ارتفاع نسبة التلقيح لديها، وتأمين حصول نسبة كبيرة من مواطنيها على جرعتي اللقاحات خلال الأشهر القليلة المقبلة. تشهد إيطاليا احتجاجات بسبب تشدّد السلطات وفرضها إجراءات جديدة لمكافحة كورونا لتعويض بطء عمليات التلقيح. على عكس الواقع في الدنمارك، حيث تجاوزت نسبة الحاصلين فيها على الجرعة التعزيزية (الثالثة) عشرة في المائة. أما في إيطاليا والنمسا، فقد تلقى 60 في المائة الجرعة الأولى من اللقاحات، في وقت تشهد دول العالم الثالث نقصاً كبيراً.
وكشفت الوكالة الوطنية للصحة في كوبنهاغن عن إصابتين بـ"أوميكرون" (مع توقع ارتفاع الأرقام). وعلى الرغم من أنّ المواطنين شعروا بالراحة خلال فترة الصيف، في ظل السيطرة على الوباء إلى درجة لم يعودوا فيها مجبرين على وضع الكمامات، والعودة إلى مشاهدة مباريات كرة القدم في دوري أبطال أوروبا داخل وخارج البلاد، والإقبال على الحانات، ها هي البلاد تعود إلى فرض وضع الكمامات، إذ لا يمكن مواجهة الفيروس من دون تحصين عادل للشعوب، وتوزيع اللقاحات على الدول الغنية والفقيرة في آن.
الكشف عن مصابين جدد بمتحور "أوميكرون" حول العالم، والذي يثير قلق منظمة الصحة العالمية، دفع الأمين العام لمنظمة "أوكسفام"، كريستيان وايز، إلى التحدث عن غياب المساواة في توزيع اللقاحات، الأمر الذي يؤدي إلى زيادة الطفرات وبالتالي المتحورات. ونقلت عنه الصحافة الدنماركية قوله "ليس من العدل ألا يحصل الفقراء على اللقاحات. كما أن ذلك ليس تصرفاً ذكياً من قبل الدول الثرية للتوصل إلى حلول مستدامة، وهو ما تظهره الطفرة الأخيرة لكوفيد-19، ما يؤكد أنّ المخاطر كبيرة مع احتمال ظهور طفرات جديدة". وحاولت "أوكسفام" لوقت طويل، الضغط من أجل زيادة توزيع اللقاحات على دول الجنوب الأقل حظاً، وكسر قواعد احتكار إنتاج اللقاحات، وتأمين إنتاجها في الدول التي لم يحصل غالبية سكانها على اللقاحات.
الرئيس الأميركي جو بايدن، وبحسب تقارير تحدثت عن النتائج الوخيمة لاحتكار اللقاحات في الدول الثرية، قال إنّ بلاده مستعدة لتعليق براءات الاختراع الخاصة باللقاحات لتمكين الدول الفقيرة من إنتاجها محلياً، في الوقت الذي تتردد دول الاتحاد الأوروبي في تبني سياسة كسر الاحتكار، وبالتالي إتاحة الفرصة أمام مواطني الدول النامية للحصول على اللقاحات والحدّ من ظهور متحورات جديدة، والعودة إلى نقطة الصفر لصالح الشركات العملاقة المنتجة للأدوية واللقاحات. كما أنّ هذا الأمر يعزز موقف أولئك الذي يتبنون نظرية المؤامرة، ويعتبرون أنّ كورونا "اختراع يساهم في زيادة أرباح الأثرياء والشركات على حساب أرواح البشر".
وتشهد القارة الأفريقية بطئاً في عمليات التلقيح، إذ لم تتجاوز النسبة واحداً في المائة، بحسب منظمة الصحة العالمية واللجنة الدولية للصليب الأحمر، ما يعيد التذكير بأنّ دولاً كثيرة في الشمال تبقي ملايين اللقاحات في مخازنها كجزء من سياسات طوارئ وطنية، على غرار الدنمارك.
إلى ذلك، يقول أستاذ علم الأحياء الدقيقة السريرية في جامعة "جنوب الدنمارك"، هانس يورن كولموس، إنّ الناس يواجهون سياسات خطيرة، مشدداً في تصريحات للصحافة المحلية في كوبنهاغن على أنّه "من وجهة نظر طبية، أرسلوا اللقاحات إلى الفقراء الذين لا يستطيعون تحمّل تكاليفها. الدول الفقيرة تحاول ما استطاعت، إلّا أنّ الأنانية تقود العالم. علماً أنّ الفيروس يصيب حتى أولئك الذين تلقوا جرعتي اللقاح" في إشارة إلى تسجيل العدوى بين من تلقوا جرعتين بعد مرور 6 أشهر، وخطورة وسرعة تفشي "أوميكرون". ويرى خبير في منظمة الصحة العالمية أنّ البشرية تتجه، بفضل هذه السياسات الأنانية المتبعة، إلى تحويل كوفيد-19، مع تحوراته المتكررة، إلى "جائحة مستدامة، ما يفرض تطوير اللقاحات من عام إلى آخر". ويؤكد أن أوميكرون هو "نتيجة مباشرة لعدم المساواة في الحصول على اللقاحات حول العالم"، مشدداً في الوقت نفسه على ضرورة "تبني العالم رؤية موحدة تضمن وصول اللقاحات إلى الجزء الأفقر من العالم".
من جهته، وضع الباحث في منظمة الصحة العالمية، فليمنغ كونرادسن، سيناريو مزعجاً للدول الغنية في حال الاستمرار في السياسة الحالية المتعلقة باحتكار اللقاحات. ويقول: "إذا لم يوفر العالم اللقاحات لمليارات البشر، خصوصاً في دول أفريقيا، فإنّ العالم الغني سيدفع فاتورة مزعجة جداً، وهو ما قد تكشفه الأسابيع المقبلة مع المتحور الجديد". ويتوقع ظهور "متحورات جديدة سريعة الانتشار، ولهذا نتائج كارثية على المجتمعات الفقيرة التي لا تستطيع اقتصاداتها تحمّل تأمين اللقاحات".
وفي الثامن عشر من الشهر الجاري، وقبل الإعلان رسمياً عن متحور "أوميكرون"، قال منسق الاستجابة لفيروس كورونا في البيت الأبيض، جيف زينتس، إنّ "واشنطن بصدد زيادة إنتاجها للقاحات المضادة لكورونا بمليار جرعة سنوياً بدءاً من العام المقبل، بهدف مكافحة الفيروس والاستعداد للتهديدات المستقبلية". وإذا كان الأميركيون لا يعلنون صراحة عن مقدار تخزينهم الحالي للقاحات، فإنّ التقديرات خلال أشهر الإنتاج السابقة من العام الحالي تجاوزت المليار جرعة. وتعد الولايات المتحدة في مقدمة الدول التي قدمت لدول العالم جرعات مجانية بنحو 250 مليون جرعة من مختلف اللقاحات المنتجة محلياً. وذهبت تلك الجرعات، بحسب زينتس، إلى 110 دول.
ومن خلال زيادة إنتاج اللقاحات، تسعى أميركا إلى تقديم مساعدات أكبر للدول الأخرى، بحسب زينتس الذي حدد الفترة الزمنية بما بين 6 و9 أشهر للوصول إلى مليار جرعة بعد التشاور مع وزارة الصحة الأميركية. ويأتي الإعلان الأميركي بعد انتقادات وجهها سابقاً رئيس منظمة الصحة العالمية، تيدروس أدهانوم غيبريسوس، بسبب إعطاء الدول الغنية الأولوية لحماية مواطنيها من خلال الجرعات التعزيزية بدلاً من التبرع باللقاحات للدول الفقيرة. وتجدر الإشارة إلى أن أميركا منحت نحو 60 في المائة من سكانها البالغ عددهم 333 مليون نسمة جرعتي اللقاح، في وقت حصل عشرة في المائة على الجرعة الأولى وينتظرون الثانية.
وفي سبتمبر/أيلول الماضي، أعلنت الدول الغنية، وبشكل رئيسي أميركا وكندا ودول الاتحاد الأوروبي وبريطانيا واليابان، عن توجهها لأن يصل مخزونها في نهاية العام الحالي إلى 1.2 مليار جرعة، الأمر الذي دفع منظمة الصحة العالمية إلى انتقاد سياسة هذه الدول، باعتبار أنّ التخزين غير مقبول ولا يضمن المساواة. وفي النتيجة، عدلت أميركا موقفها ودعت الاتحاد الأوروبي إلى رفع احتكار إنتاج اللقاحات ليتمكن سكان جنوب الأرض من إنتاجها.
وحققت شركات الأدوية الرئيسة المنتجة للقاحات أرباحاً هائلة خلال العام الحالي. وأشارت تقارير إلى أنّ شركة "موديرنا" حققت للمرة الأولى أرباحاً بعدما ظلت تعاني عجزاً لسنوات. وأعلنت بعد أيام قليلة من انتشار "أوميكرون" أنّها ستسعى إلى أن يكون اللقاح المضاد للمتحور جاهزاً بداية العام المقبل، أي بعد نحو شهر من الآن.