يزداد التوتّر بين شعب الإنويت أو الإسكيمو في جزيرة غرينلاند والدنمارك التي تسيطر عليها منذ قرون، على خلفية عدد من القضايا التي تمسّ وجود ومستقبل "الشعب الأصلي". ويعتقد سياسيون من الجزيرة أن كوبنهاغن تصرفت مع شعبهم بعقلية استعمارية. وآخر ما كشفته التقارير قيام الدنمارك في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي بفرض وضع لولب رحمي لنساء الجزيرة بهدف الحد من الإنجاب، وذلك من دون معرفة النساء أو موافقتهن، وشمل فتيات في عمر الرابعة عشرة، ما منع كثيرات من معرفة أسباب عدم إنجابهن. والعام الماضي، وعدت حكومة كوبنهاغن ببدء التحقيق في القضية، لكن يبدو أن الأمر لم يكن أولوية لدى سياسييها، لتعود إلى الواجهة مؤخراً بفعل إصرار برلمان الحكم الذاتي في الجزيرة.
فرض اللولب الرحمي على نساء غرينلاند بات يثير غضب شعب الجزيرة الصغيرة (حوالي 60 ألفاً)، خصوصاً في ظل لامبالاة الدنمارك بما اتفق عليه الطرفان قبل ثمانية أشهر، بشأن التحقيق لكشف فرض منع النمو السكاني لشعب الإسكيمو من خلال فرض وضع اللولب الرحمي.
وأدت الانتخابات العامة في الدنمارك وغرينلاند العام الماضي إلى وصول سياسيين شبان من اليسار ويسار الوسط. ويبرز السياسي الشاب في حكومة الحكم الذاتي، موتا إيغيدا، الذي قال على أحد التلفزيونات الأميركية إن القضية "تضر بالعلاقة بين الطرفين، إذ على الدنمارك أن تحقق في ما جرى بدلاً من تقديم نفسها كمستعمر جيد".
ويأتي غضب الشعوب الأصلية في غرينلاند على خلفية الانخفاض الكبير في أعداد الولادات، وهو ما يصفه خبراء بأنه "تناقص دراماتيكي". فمن زيادة في خمسينيات وستينيات القرن الماضي في أعداد المواليد بنسبة 80 في المائة، أي حوالي 1800 طفل سنوياً، انخفضت الولادات بشكل واضح، بعدما وضع الأطباء الدنماركيون، بتوجيهات من سلطاتهم في كوبنهاغن، اللولب الرحمي لدى الإناث من دون علمهن، وبالتالي لم تعد آلاف النساء قادرات على الإنجاب.
وما بين عامي 1966 و1970، شمل الإجراء ما لا يقل عن 4 آلاف و500 امرأة من أصل نحو 9 آلاف عشن في الجزيرة وكن في عمر الخصوبة، ما يعني أن نصف نساء الجزيرة فقط قادرات على الإنجاب. وتوضح أرقام صادرة عن مركز الإحصاء الغرينلاندي وغيره من مؤسسات محلية، أن الممارسة الشائعة عام 1970 أدت إلى قيام الأطباء الدنماركيين بتقديم إرشادات للفتيات حتى عمر 15 سنة من أجل وضع اللولب الرحمي لهن من دون موافقة أو علم أسرهن.
ومع تناقص أعداد شعب الإينويت، انتقدت الأمم المتحدة عام 1974 ممارسات الدول الاستعمارية والمتعلقة "بوسائل تنظيم الأسرة المتبعة في المستعمرات السابقة، ومن بينها غرينلاند". وطالبت "بترك مسألة حق الإنجاب للناس جميعاً". على الرغم من ذلك، لم يثر الموضوع رسمياً في كوبنهاغن، بل تفاخر الوزير المكلف بغرينلاند آنذاك إيه سي نورمان (1970)، بالقول إن "الولادات في غرينلاند تتناقص بفضل اللولب الرحمي".
من جهته، لم يطلع الشعب الدنماركي على ممارسة دولته في مستعمرته السابقة غرينلاند بحكم ذاتي تحت سيادة كوبنهاغن، إلى أن أثار صحافيون في التلفزيون الدنماركي الرسمي "دي آر" القضية العام الماضي. ولا تزال تكشف الكثير من الحقائق عن "العقلية الاستعمارية"، بما في ذلك قضايا نزع الأطفال من أسرهم بحجة جعلهم أكثر تحضراً، كما يقول شباب غرينلاد، عدا عن الرغبة في خفض أعداد الشعب الأصلي الذي عانى على مدى عقود في الدنمارك من التمييز والعنصرية والتنميط، كالقول إن جميعهم يتناولون الكحول طوال الوقت، على الرغم من أنهم يحملون الجنسية الدنماركية.
إرجاء التحقيق المفترض أن ينتهي عام 2024، اعتبره السياسي موتا إيغيدا وعدد من علماء النفس والاجتماع الغرينلاديين، محاولة تسويف في القضية من قبل الحكومة الدنماركية. وينذر الأمر بأن العلاقة بين الطرفين ستتضرر، في وقت باتت جزيرة غرينلاند تحتل مكانة متقدمة في تنافس جيوسياسي كبير في منطقة القطب الشمالي.
وتعترف وزيرة الصحة في حكومة الحكم الذاتي في غرينلاند، ميمي كارلسن، بأنها تشعر بالإحباط بعدما مارست "كل ما يمكن من ضغوط على الحكومة الدنماركية، ووعدنا النساء بأن التحقيق سيبدأ في أقرب وقت ممكن، لكنه لم يبدأ".
من جهتها، قالت وزيرة الصحة الدنماركية صوفيا لوده إنها "أعطت المسألة أولوية". كما أعربت عن "تفهّم عدم الرضا في غرينلاند، وأتمنى لو كان بإمكاننا أن نبدأ شيئاً ما بشكل عاجل".
قضية اللولب الرحمي لمنع تكاثر شعب الإينويت في غرينلاند يمكن أن تفجر قضايا قانونية لدى آلاف النساء من الجزيرة، بالإضافة إلى الحرج الكبير مع كشف المزيد من ممارسات السلطات الدنماركية التي كانت تستعمر الجزيرة. ويمكن لهذا الأمر تعزيز الرغبة المتزايدة في الاستقلال. وإذا ما تلكأت كوبنهاغن، يحتمل أن تصبح القضية أمام المحاكم الأوروبية ومنظمات الأمم المتحدة. وما يريد الغرينلانديون التحقيق فيه حيال ما يُطلق عليه منهجيات الممارسة حتى عام 1991، يعود إلى فترة ممتدة منذ أواسط ستينيات القرن الماضي. وتظهر شهادات أن الأطباء وضعوا لديهن اللولب الرحمي حين كنّ على مقاعد الدراسة عام 1976، وقيل لهنّ إنه يتوجب عليهن التوجه إلى المستشفى من أجل وضع اللولب. كما أشارت النساء إلى أنهن تعرضن لكثير من الإساءات. وانخفاض مواليد شعب الإينويت يبدو واضحاً وفقاً لإحصائيات رسمية. فمن 1800 ولادة سنوياً عام 1959، لم تعد الأعداد تتجاوز الـ 800 ولادة حتى 2019.
يشار إلى أن غرينلاند تحولت من مستعمرة إلى إحدى مقاطعات الدنمارك في عام 1953. وأدت خطط التحديث الشاملة إلى تحسين الرعاية الصحية والظروف المعيشية، وتحسن متوسط العمر المتوقع ومعدلات بقاء المواليد على قيد الحياة.