يُمنح المواليد الجنسية تلقائياً في الدنمارك إذا كان أحد الوالدين مواطناً، خصوصاً الأم. ويحصل ذلك حتى إذا كان الأب من أصل أجنبي. لكن تشديد قوانين التجنيس تدريجاً خلال الأعوام العشرة الأخيرة، وضع آلافاً من مواليد هذا البلد في خانة "الأجانب"، وبعضهم باتوا بدورهم آباءً مصنفين بأنهم "مهاجرون".
هذا ما يسري على الأم الشابة غادة (32 عاماً)، فهي ولدت من أبوين من أصول أردنية، لكن والدها لم يحصل على الجنسية رغم أنه ولد بدوره في الدنمارك بعدما هاجر إليها جدها في مطلع الستينيات من القرن العشرين، لكنه احتفظ بجنسيته الأردنية مكتفياً بتصريح إقامة في البلد. وهكذا انتقل وضع والدها تلقائياً إليها رغم أنها ولدت ودرست طوال حياتها في كوبنهاغن. وقبل عامين أنجبت غادة مولودها الأول الذي بات ينتمي إلى الجيل الثالث الذي يحمل صفة "مقيم مهاجر" استناداً إلى "قانون الأجانب".
وتكشف الأرقام عن وجود حوالى 19 ألف شاب وشابة ولدوا وكبروا في الدنمارك من خلفيات متعددة، وبينهم أوروبيون يجدون أنفسهم مختلفين عن زملائهم الدنماركيين في سوق العمل أو على مقاعد الدراسة. ومنذ أكثر من 10 سنوات، جرى تعديل قوانين الجنسية لتصبح أكثر صرامة، وتلحظ تأجيل منح الجنسية أكثر من 6 سنوات، وربما ربع قرن إذا ارتكب الشخص مخالفات قانونية بسيطة.
وواجهت القوانين المشددة انتقادات عدة من مؤسسات أوروبية، لكن ذلك لم يمنع كوبنهاغن من مواصلة العمل بتعديلات أدخلتها الحكومة السابقة ليمين الوسط، ونتجت من اقتراحات قدمها "حزب الشعب الدنمارك" القومي المعادي للمهاجرين. وتضع هذه التعديلات منذ عام 2015 عراقيل كثيرة أمام حصول اللاجئين الجدد على الجنسية.
وكانت لافتة مصادقة البرلمان عام 2018 على قانون يشترط مد الراغبين في الحصول على الجنسية الدنماركية اليد ومصافحة الموظفين، وتوقيعهم تعهداً بـ"احترام الدستور والقيم والثقافة الدنماركية" من أجل تفادي رفض شبان انتموا خصوصاً إلى جماعة صغيرة بين المسلمين تمثلت في "حزب التحرير" وجماعات أخرى، القيم والديمقراطية في الدنمارك.
وأثارت مواقف هؤلاء الشبان حينها سجالاً دفع الحكومة إلى اتخاذ إجراءات مشددة في التعامل مع قضايا الهجرة، بينها إغلاق مدارس إسلامية، ورفض منح الجنسيات وسحبها من آخرين بتهم مختلفة.
لكن عام 2019 شهد محاولة نواب من كتلتي اليسار ويسار الوسط تخفيف وطأة شروط الجنسية التي تشمل أيضاً إخضاع طالبيها لامتحان حول تاريخ الدنمارك وثقافتها نشرت بعض وسائل الإعلام أسئلته في مواقعها الإلكترونية لاكتشاف قدرة الدنماركيين أنفسهم على تجاوزه، قبل أن يتبين رسوب كُثر منهم فيه. وفي صيف العام الحالي، انتهت اقتراحات تسهيل التجنيس بتصويت غالبية نواب البرلمان ضده.
أقلية تشريعية مع "الجنسية"
في الأساس، تشرف "لجنة الجنسية" في البرلمان على عملية منح الجنسية، ما يجعل ممثلي الأحزاب البرلمانية يشاركون في تقرير مصير كل طلب لجوء بمفرده، بخلاف النظام الذي اعتمد في تسعينيات القرن العشرين عبر جمع الأسماء، وإجراء تصويت جماعي عليها، بعد فرز وزارتي الهجرة والداخلية الطلبات.
ويبدي معارضو إبقاء قوانين التجنيس المشددة قلقهم من تأثير هذا الإجراء سلباً على عملية الاندماج في المجتمع، وبينهم نواب ينتمون إلى حزب "القائمة الموحدة"، يعتبرون أن "القانون الحالي مبني على قواعد سخيفة وجامدة للوصول إلى المواطنة التامة". لكن هؤلاء يشكلون أقلية تشريعية، في وقت يؤيد فيه نواب يسار الوسط الحاكم واليمينيون وممثلو يمين الوسط تطبيق إجراءات أكثر صرامة في قوانين منح المواطنة، ويكررون بأن "الجنسية ليست هدية أو حق".
ويرى مسؤول شؤون الجنسية في حزب "المحافظين" ماركوس كنوث أنه "لا يمكن منح الجنسية تلقائياً إلى شخص لمجرد أنه وُلد في الدنمارك، إذ يجب أن يعمل لكسبها"، ما يعكس إصرار المعسكر المعارض لتخفيف شروط الجنسية على "عدم جذب مزيد من اللاجئين والمهاجرين".
وتحمّل مسؤولة شؤون الجنسية في حزب "الشعب الدنماركي" القومي المتشدد ماريا كراروب الآباء من أصول مهاجرة مسؤولية عدم حصول آلاف من الأبناء على الجنسية رغم أنهم ولدوا وترعرعوا في البلاد. وقالت في منتصف ديسمبر/ كانون الأول الجاري، تعليقاً على سجال دار إثر كشف عدم امتلاك آلاف من الشبان الدنماركيين بالولادة جنسية البلد: "أهل هؤلاء الشبان موجودون في الدنمارك من دون أي خطط لأطفالهم، ما يعني أنهم خذلوا أطفالهم بالسفر إلى بلد لم يحاولوا الانتماء إليه. ولو نجحوا في ذلك لكان أطفالهم أصبحوا دنماركيين".
ويطرح معسكر اليمين دائماً فكرة عودة ذوي الأصول المهاجرة مع أبنائهم إلى بلدان نشأتهم، ويركز خصوصاً على مهاجري "العالم الثالث"، وتحديداً المجتمعات المسلمة، التي تطلق على أفرادها تسمية "مهاجرون من خارج الغرب (أوروبا)".
أسئلة "القيم الدنماركية"
من جهته، يطالب حزب "البرجوازية الجديدة" (يمين متشدد)، بإدخال قيود مشددة إضافية على قانون الجنسية تحصر منحها بعدد لا يتجاوز 300 شخص سنوياً. وتقول مسؤولة شؤون الجنسية فيه ميتا تيسين: "الجنسية ليست حقاً، بل هدية عظيمة يجب أن تمنح لأشخاص قليلين فقط"، علماً أن البرلمان تبنى قوانين مشددة جديدة في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي من خلال أسئلة "القيم الدنماركية"، التي تستهدف خصوصاً المهاجرين من أصول غير أوروبية. 4
لكن الأشخاص الذين يطلق عليهم "من أصول مهاجرة" يشكلون نحو 14 في المائة من حوالى 5.5 ملايين من سكان الدنمارك، أي حوالى 825 ألف شخص، بينهم 526 ألفاً من أصول غير غربية، و286 ألفاً من أصول شرق أوسطية وشمال أفريقية. ويشكل الأتراك المجموعة الأكبر عدداً بحوالى 65 ألف شخص، ويأتي بعدهم العراقيون والسوريون واللبنانيون والفلسطينيون. وغالبية هؤلاء باستثناء اللبنانيين لا يحملون الجنسية الدنماركية.
وتفيد أرقام أصدرها جهاز "الإحصاء الدنماركي"، الصيف الماضي، بأن الدنمارك شهدت منذ عام 1980 زيادة بنسبة 9 في المائة في أرقام المهاجرين والمتحدرين من أصولهم، وأن نسبتهم ارتفعت من 3 إلى 14 في المائة من مجموع السكان. ويشكل القادمون من أصول غير غربية الزيادة الأكبر بنسبة 8.9 في المائة، علماً أن نسبتهم لم تتجاوز واحدا في المائة من مجموع السكان عام 1980.
ومنذ أن أقرّت الدنمارك عام 2015 قانون الجنسية المشدد الذي يطلب أيضاً إقامة دائمة ومتواصلة لا تقل عن 9 سنوات، والالتحاق بسوق العمل، وعدم تلقي إعانات اجتماعية خلال السنوات الأربع الأخيرة من تقديم الطلب، بات امتحان الجنسية وإجادة اللغة بمستوى عالٍ الشغل الشاغل للراغبين في نيل الجنسية. ويتضمن الامتحان الحالي 45 سؤالاً تشمل قضايا تتعلق بتاريخ البلد منذ القرون الوسطى، وثقافته ومواضيع المساواة بين الجنسين والمبادئ الديمقراطية، إلى جانب تفاصيل كثيرة تتعلق بأحداث وشخصيات مهمة في حياة مواطني هذا البلد.
وليست أسئلة الامتحان ثابتة، فيما تساعد مراكز تعليم المهاجرين الذين يتكلمون اللغة الدنماركية بشكل جيد في اجتيازه عبر الإجابة عن 36 من أصل 45 سؤالاً. وتظهر الأرقام الرسمية تراجع عدد الناجحين، ففي نوفمبر/ تشرين الثاني 2020، نجح نحو 59 في المائة من الذين تقدموا للحصول على الجنسية. وفي يونيو/ حزيران الماضي، بلغت النسبة 66 في المائة، ما أثار سجالاً حول صعوبة الاختبار.
وفعلياً، جعل قانون الجنسية مسألة الحصول عليها أمراً معقداً على اللاجئين الذين لم تحصل عليها إلا نسبة 27 في المائة منهم، وكذلك المهاجرين الذين حصلت نسبة 54 في المائة منهم عليها. وتشير الأرقام إلى أن 2 من 5 مهاجرين من أصول غير غربية ينجحون في الامتحان، في مقابل 4 من 5 متقدمين من أصل غربي (أوروبي).