بين مشاهد الدقائق الأولى التي تلت الانفجار في مرفأ بيروت في 4 أغسطس/ آب 2020، وبين مشاهد اليوم بعد عام من الواقعة، لا فارق كبيراً، خصوصاً في شوارع محلتي الجميزة ومار مخايل المحاذيتين لمبنى شركة الكهرباء، الأكثر قرباً من موقع الانفجار. الدمار هو ما ترصده كلّ نظرة، وهي الحال السائدة رغم بعض "الاستثناءات" الناتجة من عمليات ترميم وإصلاحات من هنا وهناك تنفذها جمعيات ومنظمات يفترض أنّها حصلت على أموال خارجية لـ "استرجاع" هوية المكان الذي يميزه الطابع التراثي، باعتبار أنّ قسماً من مبانيه قديم جداً.
وبين ما التقطته الآذان في الدقائق الأولى لما بعد الانفجار وبين ما تسمعه اليوم، هو حلول أصوات "نقر" أدوات عمال البناء على الجدران، بدلاً من صرخات أوجاع الجرحى ونداءات الاستغاثة بالمسعفين في مرحلة أولى، وبعدها أهازيج غضب الناس من القوات الأمنية التي دخلت مناطق الكارثة بلا حول ولا قوة حينها، وهذه حالها غالباً حتى اليوم.
والأهم أنّه بين أحاسيس وقائع الدقائق الأولى لما بعد الانفجار وواقع اليوم لا مجال للخروج من الصدمة النفسية لما حصل. معنويات ما تبقى من سكان المكان، باعتبار أنّ معظمهم ما زالوا خارجها حتى اللحظة، في أدنى مستوى، رغم أنّ قسماً منهم واجه نكسات مماثلة أو حتى لفترات زمنية أطول خلال الحرب الأهلية، لأن هذه المناطق كانت قريبة جداً من خطوط التماس بين ما كان يعرف حينها بالمنطقتين الشرقية والغربية للعاصمة بيروت.
في قلب مصائب الحرب الأهلية
خلال لحظات حمل السكان ما تيسّر لمغادرة المكان ليلة كارثة الانفجار. كان لافتاً ردّ شخص من أبناء المحلة المحاذية لمبنى شركة الكهرباء على سؤال وجهه شاب شارك في عمليات الإنقاذ عن رؤيته في حياته شيئاً يشبه ما حصل، بالقول: "شاهدت أسوأ من ذلك خلال الحرب الأهلية (1975 - 1990). رفعت مرات كثيرة أباجورات (واجهات الشبابيك الخشبية التي تتميز بها الأبنية القديمة للمحلة) من الشارع في السبعينيات والثمانينيات. وأعتقد أنّ المنطقة ستنهض وتعود".
ما تذكّره هذا الشخص هو فعلياً الذاكرة الأهم للسكان الذين ولدوا وترعرعوا في أرجاء المكان خلال فترة الحرب الأهلية. فهم شاهدوا بشكل مباشر فصولاً مما يعرف بـ"السبت الأسود" في نهاية السبعينيات والذي شهد توقيفات وتصفيات على الهوية بين مقاتلي الأحزاب الطائفية، وعايشوا قصف جيش النظام السوري خلال حرب المائة اليوم في الثمانينيات التي جعلتهم لا يجسرون حتى على مدّ رؤوسهم من شبابيك منازلهم، وبعدها أحداث حرب الجبل حين احترقت بسبب القصف معظم السيارات في شارع ما يعرف بنزلة وزارة الخارجية. وشارك ثلاثة من السكان فقط حينها في إطفاء الحريق باستخدام سيارة من طراز أميركي دفعوا فيها باقي السيارات المشتعلة، وما تيسر من ماء منعوا عبرها النيران من التهام المنازل والمباني.
وفي عام 1986، تجنب الشارع نفسه انفجار عبوة تحتوي كمية 200 كيلوغرام من مادة "تي أن تي" شديدة الانفجار أمام ملحمة احتوت قوارير غاز، إذ تعطلت كبسولة الشحنة المتفجرة. وبعد عام ألقت إحدى المليشيات قذائف "إينرغا" من رشاشات، على الحيّ فقتلت وجرحت أشخاصاً كُثراً. وخلال ما يعرف بحربي "التحرير" و"الإلغاء" نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات، واجهت المحلتان سيول القذائف التي خلّفت ضحايا وجرحى.
ورغم الأضرار الكبيرة التي لحقت بهذه المناطق خلال محطات الحرب الأهلية، دفع السكان كل تكاليف التصليحات فيما انكفأت الدولة دائماً عن هذا الدور، وهو ما تكرر بعد انفجار المرفأ، بحسب ما تقول سيدة سبعينية.
مرحلة النهوض
مع طي ذاكرة الحرب، واكب سكان الجميزة ومار مخايل، بقوة، مرحلة النهوض من خلال مشاريع السياحة الترفيهية التي جذبت محبي السهر والسائحين الأجانب إلى المكان. لكنّهم دفعوا ثمناً غالياً لوجودهم في بيئة مليئة بالضجيج وافتقاد البنى التحتية المناسبة لاستقبال عشرات المطاعم والحانات والمقاهي، فواجهوا هذه "الهجمة غير المدروسة" سنوات، ثم "هاجر" بعضهم إلى مناطق أخرى، وتحولت بيوتهم إلى شقق للإيجار.
وفيما بقي "الصامدون" وهم أولئك الذين لا يملكون أماكن أخرى للسكن "زحف" عليهم أصحاب مشاريع الإعمار الذين اشتروا المباني القديمة حتى تلك المصنفة تراثية، ورفعوا دعاوى أمام القضاء للحصول على أحكام بالهدم. وقد نُفِذ بعضها بخلاف أخرى، في حين هدم انفجار المرفأ بعضها فباتت الأحكام مطبقة بحكم الواقع.
وفي تكريس لحال "اللا مبالاة الاجتماعية" التي تشكل إحدى العلامات الفاصلة في حياة اللبنانيين، ونقطة بارزة في "إضعاف اتحادهم" المطلوب للعبور نحو "وطن مثالي" بدا أنّ ما عاشته محلتا الجميزة ومار مخايل من أجواء ترفيه لا تراعي أيّ ضوابط في مرحلة ما قبل انفجار المرفأ "غريباً" عن أحاسيس السكان وذاكرتهم وذكرياتهم، لكنّهم تكيفوا مع الواقع، وكان يسعدهم ما تنقله المسلسلات والأفلام والإعلانات وكليبات الأغاني من مشاهد الجمال التراثي لمناطقهم.
والحقيقة أنّ مظاهر "اللا مبالاة الاجتماعية" عادت بسرعة إلى الأماكن التي لملمت بسرعة خسائر ما بعد الانفجار، بحسب الإمكانات المتوافرة وحجم الأضرار، في حين أنّ أكثر ما يزعج السكان المتبقين أو الذين يحاولون العودة بشتى الوسائل من أماكن مكوثهم المؤقتة، أنّهم يتعرضون لـ"أنواع مختلفة من الخداع والكذب". بعض أصحاب المنازل والمتاجر المتضررة يقولون إنّ "وتيرة أعمال الترميم تراجعت بحجة افتقاد التمويل" في حين لم تخضع منشآت أخرى لأيّ إصلاحات في الأصل. من هنا يبدو أنّ انتظارهم سيطول، في حين بدأ البعض يتحدثون عن استئناف التلويح بطردهم بحجة الهدم، ويعيشون بالتالي في قلق بالغ في شأن وضعهم.
ولا يخفي البعض عدم الثقة بأنّ "عملية تجميع مادة الأمونيوم التي انفجرت في المرفأ غير مستمرة حالياً، لذا تعيش المناطق القريبة في خطر دائم، فيما لا سبيل إلى طمأنة السكان، خصوصاً أنّ الجيش لم يضطلع بدوره كاملاً حتى الآن في موضوع التعويضات".
لا شك في أنّ كفتي ميزان ذاكرة الأفراح والأتراح التي عرفها سكان الجميزة ومار مخايل، في التاريخ الحديث، كانت دائماً أكثر ميلاً للأتراح، وهي حال لبنان عموماً. واليوم لا شيء يوحي بتغيير هذه المعادلة.